مهداة لأخي - عبد الرزاق بن عبد الله القين رُبْدٌ هي الليالي.. كثيفةٌ فيها الرؤى متشابكة بها المواجد.. ليس فيها سُدْفة من نور أو فُرْجةٍ من شعاع لنجمة تضيء من أُفق بعيد أو قريب!! والأوهاق جاثمة على صدرها تأبى عليها أن يشرق الصبح بعدها وتنجلي, بل تريدها أن تطول وتطول وتطول.. حتى إن الزمن توقف عندها أو كاد فأصبح بطيئاً في تحرُّكه لا يكاد يبين! ويصرخ كل من في الوجود: أيتها الليالي كفى.. كفى, ولكنها لا تصيخ سمعاً لأحد.. لا تلقي بالاً لأي صوت تسمعه روحي فترتجف كأن السيف يدميها وينحرف ليخترق الأوصال، فتبتسم الدماء في وجه من أهدى لها الجُنف ثم حاد عنها وهو متصلت كالذّنب الذي جفّت دونه الصحف فقطعت الأيام ما ارتخت لتواري هوله السُّجفُ!! وتبرّأت الأرواح من الأصوات التي رحلت بعيداً وبقي صوتك، موصياً لي بدعاء متأولاً آي الذكر الحكيم بالتعوذ ببركة طهارة الله «من أن يطرقني طارق من الجن والإنس إلا طارق بخير يا أرحم الراحمين، فاللهم أنت عياذي فيك أعوذ وأنت ملاذي فيك ألوذ وأنت غياثي فيك ألوذ، يا من ذلّت له رقاب الجبابرة ودانت له مقاليد الفراعنة أجرني من خزيك وعقوبتك في ليلي ونهاري وظعني وقراري وعُدْ لي بخير منك يا أرحم الراحمين» تأولاً من قوله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (18) سورة آل عمران. لقد مضى على ذكرى هذا العطاء منك - أيها الصوت - أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وكلما تذكرته عادت وقدة الجمر تحت رماد الذكرى فأحس بروحي شغوفة للمكرمات وما يكفي بها الشغف، فهلاّ يُبلورها الشغف لتحمد الله ويستحيل إلى تِبْرٍ بها الخَزَفُ؟ إنني أعيش دنياي لا أرضى بما جُبلت عليه نفسي وقد وفقني الله على الحِوَل، وقد طويت جراحي بصدري رغم نزفها ما عشت أبداً نائية عن المُقل، ولم أعلنها ما دمت أحسبها تفضي بي إلى الأمل.. ولسوف تدميني، فتنضجني وتنقل روحي من حُزن إلى جذل.. وأنا لم أعد ذا لهو ولم تعد روحي تكترث بصوت شجي ولا باتت على وجل. وإني لأعرف نفسي، رغم صبوتها لا تستريح إلى الأسواء والزلل، وإنما إلى الآلام ضارية نشوى ثم تستروح الآمال في العلل، إنه الكنز في أجمل نوائله تستبدل به النفس صرحاً عن الطّلل!! يا صوت!! لو لم تكن إلا أنت تأتيني بين الفينة والأخرى.. تذكرني بأن روحي مطهرة رغم البوائق، إنك لم تجرح لي أذناً.. قد روّعتها زمناً، حتى غدت زمناً أذناً بما تؤمّله تستعذب الشجنا.. استوعبت خيراً بها فقوّمتها واجتبيتها حتى سَلَتْ الصحاب والوطنا.. وأصبحت جذلى وغدت منك مجداً غير مرتخص يأوي إليك ولا يستكثر الوطنا.. داعبتها زمناً ومنحتها الآلاء والمننا, ثم تهيأت فأرحها غير متئد، فَرُبّ شكٍ يعيق انطلاقها إلى الذرى والقمم. يا صوت ردد معي قول الشاعر: مجّدتُ الله! إن (الفلّ) يُفغِمُني عبيرُه بعد أن أدماني السَّلَمُ فَرُحتُ (أحمدُ ربي) في خمائله ولا يخامرني رعب ولا ألمُ يا من سموت بنا, ولَّت كبائرنا عنا فِراراً، ولن يستأسد اللَّممُ إني أُحِس بنفسي أنني ملك تعنو له، ما أراد الرفعة، القِممُ لا المال أغنى، ولا مجدي ولا حسبي وإنما أغنت الآلاء، والقِيمُ حسبي من العيش نُعمى أن يضيءَ غدي من بعد أمسي الذي حفّت به الظُّلمُ ولك مني عميق الود والمحبة والتقدير.