أكاد أجزم أنني لو سألت القارئ عن رأيه في الغراب لأجابني أن رأيه سلبي، وأنه يقرن الغراب بالموت والكآبة، وهذا ليس جديداً، فقد كانت العرب تتطير وتتشاءم منه ومن صوته وحتى اسمه، فكان بعض العرب يسميه «الأعور» تشاؤماً من نطق اسمه، إلى أن أتى الإسلام فنهى عن الطيرة والتشاؤم، ولكن رغم ذلك أقر الرسول عليه الصلاة والسلام أن الغراب شر، فقال في صحيح البخاري: «خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور». من سلبيات الغراب الواضحة هي أنه يأكل الميتة حتى لو كانت جثة إنسان، والغربان يعتقد الكثير أنها جزء من مشاهد المعارك، فتحلق جماعات من الغربان حول البشر عندما يتقاتلون طمعاً في أكل جثثهم بعد انقشاع المعركة. الغربان عُرف عنها أنها لا تأكل الحيوانات الميتة فقط بل تقتلها بنفسها! ذلك أن بعض أنواع الغربان تقتل الحملان والخراف الضعيفة وتأكلها، وأنواع أخرى تغير على المحاصيل الزراعية كالتمور والقمح، فالغربان آفة حيوانية وضررها واضح. لكن هذا لا يمنعنا أن نُقرّ أن الغراب مخلوق ذكي. بل هو بالغ الذكاء وله قدرات لا توجد عند أي كائن آخر. أستاذ في جامعة فيرمونت في أمريكا درس الغراب والغداف زمناً طويلاً، والغداف طير أسود أخو الغراب، ينتميان لنفس العائلة الحيوانية ولا يختلف عنه في المظهر، لذلك سأشير لكليهما هنا بكلمة «غراب». أقول: الأستاذ المذكور أجرى تجربة يقيس بها ذكاء الغربان، فاختار أعمدة وعلق عليها حبالاً تتدلى منها لحوم، وجلس ينظر ما تصنع الغربان. الذي حصل أن الغراب ذهب لأعلى العمود وقام يسحب الحبل قليلاً ثم يمسكه بمخالبه لئلا يسقط، ثم يسحب قليلاً ويمسك ما سحب وهكذا، إلى أن وصل اللحم للأعلى وأكله الغراب. هذا مدهش، لأن هذا الموقف لم يمر على الغراب من قبل. حيث تعيش الغربان فإنها لا تمر بمواقف ترى فيها لحماً معلقاً من حبال، ولا يمكن أن تكون مصادفة لأن المطلوب ليس خطوة واحدة بل عدة خطوات منطقية، لا تنجح واحدة إلا بنجاح ما قبلها. أثبتت التجربة أن ذكاء الغراب نشط ويمكّنه من إيجاد حلول فورية لمشاكل جديدة. أيضاً وجد الدارسون أن الغربان تدفن الطعام لتأكله لاحقاً، وإذا لاحظ الغراب أن هناك غراباً آخر يرقبه فإنه يتظاهر بدفن الطعام في مكان ثم يدفنه في مكانٍ آخر. لكن ما أثار عجبي فعلاً هو تجربة أجراها أستاذ في جامعة واشنطن أثبتت شيئاً مذهلاً: الغربان تستطيع تمييز الأوجه البشرية! يستطيع الغراب أن يلقي نظرة على وجهك ويحفظه للأبد، فسواءً آذيتَه أو أحسنت إليه فإنه سيتذكرك طالما عاش. التجربة حصلت كما يلي: طلب الأستاذ من أحد تلامذته أن يمسك غرباناً ثم يعلق عليها بطاقة أو علامة صغيرة، وهذه العملية تضايق الغراب. لكن قبل هذا طلب من الطالب أن يلبس قناعاً بلاستيكياً تنكرياً. بعد أن أطلقوا الغربان لبس بعض الطلاب القناع ومشوا في ساحة الجامعة. النتيجة هي أن الغربان كلما رأت شخصاً قد لبس ذلك القناع فإنها تنعق نعيقاً تحذر به بقية الغربان من ذلك الشخص، رغم أن القناع لبسه ذكور وإناث، بعضهم أبيض وبعضهم أسود، بعضهم كبير الجسد وبعضهم ضئيل، وكلهم لم يضايقوا أي غراب من قبل، لكن هذا لم يهم، فالغربان ميّزت القناع بعينه ولم تنزعج من بقية الطلاب الذين لم يلبسوا القناع. ظهرت شكوك أن السبب قد يكون رائحة القناع أو المادة نفسها، حينها طلب الأستاذ من الطلاب أن يضعوا قناعاً آخر مختلفاً، فلما رأتهم الغربان بالقناع الجديد لم تنزعج ولم تفزع. أما الجزء المذهل من التجربة فقد أتى في النهاية، وكان أقوى دليل على قدرة الغربان على تمييز الأوجه. طلب الأستاذ من تلاميذه أن يلبسوا القناع الأول الذي ميزته الغربان، لكن طلب منهم أن يقلبوه بحيث يكون أعلاه أسفله، ثم أخذ الطلاب يمشون في الساحة. الذي حصل؟ كانت الغربان تطير حول الساحة، ولما رأوا الطلاب الذين لبسوا ذاك القناع المقلوب قامت الغربان أثناء طيرانها بالانقلاب في الهواء لتتمكن من تمييز القناع جيداً! ولما ميزوا القناع أصدروا تلك الأصوات التحذيرية.