كانت مبادرة جميلة من وزارة التعليم العالي ممثلة بالملحقية الثقافية في سفارتنا في دمشق حين دعت إلى ندوة تقام في عاصمة الأمويين لتكريم العلامة الشيخ حمد الجاسر، فالجاسر شخصية سعودية ذات إشعاع عربي يتعدى الحدود المحلية ليصبح رمزاً ثقافيا عربيا على امتداد الوطن العربي الفسيح, لقد تهيأ للجاسر أن يطوف معظم البلاد العربية إن لم يكن كلها وأن يقابل علماءها وأدباءها ومثقفيها ويرتبط مع كثيرين منهم بروابط العلم والأدب التي تفوق في بعض الأحيان روابط القرابة والنسب: إن يفترق نسب يؤلف بيننا أدب أقمناه مقام الوالد ومن هذا المنطلق فإن تهيئة الفرص لمحبي هذه الشخصية العلمية البارزة خارج المملكة لكي يشاركوا في تكريمه والوفاء لشخصه يعد عملا نبيلا يقدره الجميع. في صباح يوم خريفي جميل هو يوم الخميس الموافق 15 رجب 1421ه (12/10/2000م) اجتمعت ثلة من تلاميذ الشيخ ومحبيه في ندوة ثقافية حول الشيخ حمد الجاسر عقدت في مكتبة الأسد بدمشق ضمت: الدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق. الدكتور ناصر الدين الأسد, وزير التعليم العالي سابقا في الأردن. الدكتور نقولا زيادة, الأستاذ بالجامعة الأمريكية في بيروت. الدكتور جورج جبور، المستشار في القصر الجمهوري بسورية. الأستاذ علي عقلة عرسان، رئيس اتحاد الكتاب. ومن السعوديين: الدكتور محمد بن عبدالرحمن الهدلق عميد كلية الآداب بجامعة الملك سعود. الدكتور عبدالعزيز بن صالح الهلابي، الأستاذ بقسم التاريخ بجامعة الملك سعود. الأستاذ خالد الخنين، الملحق الثقافي السعودي في سورية. وكاتب هذا المقال. بدأ الحديث في هذه الندوة الأستاذ خالد الخنين مرحبا بالمشاركين والحضور الذين لبوا الدعوة لهذه المناسبة الثقافية التي تقام من قبل الملحقية السعودية بمناسبة اختيار الرياض عاصمة عربية ثقافية لهذا العام، شاكراً وزيرة الثقافة السورية التي أقيمت الندوة تحت رعايتها، معتذرا عن عدم إلقاء بحثه في موضوع هذه الندوة حتى يترك الفرصة للمتحدثين كي يستكملوا إلقاء بحوثهم, ثم أعطى الكلمة والقيادة لمدير الندوة الدكتور محمد بن عبدالرحمن الهدلق الذي تحدث في البداية عن الشيخ حمد رحمه الله نشأته في منطقة السر، وأثره في بيئته مع استحضار شيء من سجاياه ومنها حرصه على معرفة الجديد من البحوث عند من يرتادون مجلسه، وحثهم على العطاء العلمي من خلال ذلك حتى أن بعضهم أصبح يتجنب هذا المجلس تجنبا للإحراج إذا لم يكن لديه ما يخبر الشيخ به من الجديد، ولم يطل الدكتور الهدلق الحديث مراعاة منه لكثرة المتحدثين الذين ينتظرون دورهم في الكلام, ثم قسم الوقت بين المتحدثين الستة فجعل لكل منهم عشرين دقيقة حتى يمكن استغراق إلقاء جميع البحوث في الوقت المحدد، وبما انه كان متوسطا بين المتحدثين فقد رأى أيضا أن يقسم الحديث بين من هم على يمينه ومن هم على يساره بالتساوي بحيث يأخذ من كل جهة واحدا في كل مرة وكان ذلك من حسن تدبير أبي خالد وحصافته, وقد بدأ الحديث الدكتور شاكر الفحام الذي اختار الحديث عن رحلات حمد الجاسر من خلال قراءة متأنية لرحلات الشيخ التي سجلها في كتبه الثلاثة: رحلات حمد الجاسر. في الوطن العربي. إطلالة على العالم الفسيح. وقد أفاض الدكتور الفحام في الحديث عن شخصية حمد الجاسر بوصفه عالما رحالة، تلك الشخصية التي أولعت باكتشاف المخطوطات وتجشم العسير في سبيل الوصول إلى أماكن وجودها مهما كانت المصاعب التي تصادفها في سبيل ذلك. وكان ثاني المتحدثين كاتب هذا المقال الذي تحدث عن الجاسر بوصفه عاشقا للتراث يستهويه في كل حين وعلى كل حال من حالات الصحة أو المرض. ففي حال الصحة والنشاط يتصدى لجملة من الكتب المخطوطة أو المرض. ففي حال الصحة والنشاط يتصدى لجملة من الكتب المخطوطة في جغرافية الجزيرة العربية فيخرجها إلى النور أو يعيد طباعتها على أسس من قواعد التحقيق الحديث مثل كتاب بلاد العرب الذي نسبه الشيخ، بناء على أدلة استنتاجية، إلى لغدة بن الحسن الأصفهاني، مع أن من الباحثين من يرى نسبته إلى الأصمعي, أو كتاب المناسك الذي نسبه إلى الإمام إبراهيم الحربي بناء على أدلة رآها عند إصداره أول مرة، ثم عدل في الطبعة الأخيرة عن هذه النسبة ورأى إمكان ان يكون اسم الكتاب كتاب الطريق للقاضي وكيع وان لم يجزم بذلك, ولقد اتجه الجاسر منذ وقت مبكر إلى الدراسات الجغرافية المتعلقة بالجزيرة العربية، ومنها كتب المنازل ومواقيت الحج والرحلات إلى الأماكن المقدسة ولعل من أهم ما نشر من هذه الكتب كتاب المغانم المطابة في معالم طابة للفيروز أبادي و كتاب الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكةالمكرمة لعبد القادر بن محمد الجزيري وهو كتاب سبق ان نشر في القاهرة بجهود مجموعة من العلماء السعوديين كالشيخ محمد نصيف والشيخ محمد عبدالرزاق حمزة والشيخ أحمد ياسين الخياري والشيخ سليمان الصنيع والأستاذ محمد سعيد العامودي, ولكن هذه الطبعة المبكرة للكتاب لم تكن كاملة، ولم تراجع على عدة نسخ، وخلت من الفهارس الأمر الذي شجع الجاسر على ان يخرج الكتاب في نشرة جديدة, وكما اهتم الجاسر بالتراث الجغرافي فقد اهتم أيضا بالتراث التاريخي لهذه البلاد, ومن أبرز ما تحدث به الباحث فيما يخص ولع الجاسر بالتراث الحديث عن الرحلة في حياة الجاسر وقد اختار الباحث الرحلة الاستشفائية لا الرحلة المخصصة للبحث عن التراث فأشار إلى بعض الصور التي ينصح الطبيب فيها الجاسر بالابتعاد عن الكتب والخلود إلى الراحة ولكنه لا يجد الراحة إلا في مسامرة المخطوطات وكتب التراث مهما كلف الأمر من جهد وعلى حساب الصحة والشفاء. وكان المتحدث الثالث الدكتور ناصر الدين الأسد الذي ألقى الأضواء على موضوع حمد الجاسر علامة الجزيرة العربية في الأنساب والمواقع أمثلة من علمه ومن ذكريات معه ، وقد أفاض الأسد في الحديث عن غزارة علم الجاسر في الموضوعات التي تطرق إليها، كما تحدث عن بعض الذكريات التي يختزنها عنه وبخاصة عندما كان يزوره في دارته في الرياض. أما المتحدث الرابع فكان الأستاذ علي عقلة عرسان وقد اختار الحديث عن الجانب الصحفي لدى حمد الجاسر فكان بحثه بعنوان مجلة العرب خلال مسيرتها التاريخية مبتدئ بالكلام على مسيرة الجاسر الصحفية منذ أخذ امتياز إصدار أول صحيفة في المنطقة الوسطى من المملكة، مشيرا إلى الجانب التنويري في فكر الجاسر عبر ما كان ينشره من مقالات في صحيفته. واستعرض بعد ذلك جهود الجاسر في إصدار مجلة تراثية تعنى بتاريخ العرب وأدبهم وتراثهم الفكري, ثم ألقى الدكتور عبدالعزيز صالح الهلابي بحثه عن جهود الشيخ حمد الجاسر في مجال التاريخ وذلك من خلال اهتمام الجاسر بتواريخ المدن التي كتب فيها ككتابه عن الرياض وكتابه الآخر عن ينبع ثم اهتمامه بتحقيق الكتب التي تتناول تاريخ الجزيرة العربية. اما الدكتور نقولا زيادة فقد كان المتحدث الخامس، وكان حديثه غير مكتوب لكنه كان جذابا في التعبير والإلقاء، وقد اختار الحديث عن إسهام الشيخ حمد في تحقيق كتاب المناسك الذي عده أنموذجاً للتحقيق عند الجاسر مبينا أهمية الكتاب في الأدب الجغرافي العربي، على الرغم من الاختلاف في نسبته إلى مؤلفه، مشيرا أيضا إلى بعض ما تختزنه الذاكرة من ذكريات عن الراحل الكبير, وختم حديثه بأمنيتين تمنى لو أن تلاميذ الجاسر ومحبيه ينفذونهما تكميلا لجهده, أولاهما: ان يجمع تراثه المكتوب المتفرق في مقالات مختلفة فيكون بين أيدي القراء, وثانيتهما: أن تؤلف لجنة من الجغرافيين وعلماء المساحة والبيئة والمهتمين بتراث الجزيرة من أجل وضع خريطة للجزيرة العربية توقع عليها المواضع الواردة في التراث كما حددها حمد الجاسر, وقد لاقى المقترحان ارتياحا لدى الحاضرين في الندوة. أما الدكتور جورج حبور فقد كان المتحدث الأخير، وقد أشار إلى حداثة معرفته الشخصية بالشيخ حمد وأنها تمت من خلال زيارته له في منزله في الرياض والرسائل المتبادلة، وذكر انه من المهتمين بقضايا حقوق الإنسان، وقد لفت نظره حلف الفضول الذي تعاهدت فيه قبائل مكة قبل الإسلام على ان لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ظلمه حتى ترد إليه مظلمته كما جاء في سيرة ابن هشام, ورأى ان في هذا الحلف الذي أقره الإسلام فيما بعد البذرة الأولى لميثاق حقوق الإنسان تلك التي لم يتنبه لا الغرب ولاغيرهم لها إلا مؤخراً، وذكر انه عرض الأمر على الشيخ حمد فأيده وشجعه على المضي في دراسة هذا الموضوع، لإثبات سبق العرب والمسلمين في هذا الجانب الذي هو موضوع الساعة الآن. تلك هي أهم النقاط التي اقتنصتها الذاكرة من تلك الندوة الدمشقية كتبتها بعد أن كثر إلحاح بعض من رأيتهم من الزملاء والمثقفين بالسؤال عما جرى فيها، وبخاصة وأن إعلامنا لم يقم بمتابعتها بالقدر المناسب على الرغم من وجود مكاتب لكثير من الصحف السعودية في دمشق، وبهذا سوف أحيل كل من يسألني مستقبلا عن هذه الندوة إلى هذا المقال، اقتداء بالإمام أبي محمد الأعمش الذي مرض مرة فأخذ عواده يسألونه عن مرضه كلما عادوه، ولما أكثروا عليه السؤال عمد إلى صحيفة فكتب فيها قصة مرضه فكان إذا سأله أحد عن مرضه أشار بيده إلى الصحيفة وقال له : دونك الصحيفة فاقرأها !! * كانت الندوة تحت رعاية وزيرة الثقافة السورية وقد مثلها معاون وزيرة الثقافة, وكان لوزارة التعليم العالي السورية تمثيل أيضا. * كان الإقبال على الندوة جيدا فالحضور يعكس مكانة المملكة الثقافية ويتناسب مع مكانة الشخصية المكرمة, وقد تنوعت بلدان الحاضرين فوجدنا شخصيات من مختلف البلدان كالأردن ولبنان ومصر واليمن والخليج العربي وإيران إلى جانب الحضور السوري الغالب. * الإعلام السوري كان حاضرا من خلال التلفزة وبعض الصحف والمجلات وقد قامت التلفزة بتسجيل بعض الانطباعات مع الحضور عن الندوة. * كان بودنا لو حضر السفير السعودي فالمناسبة وطنية وليست شخصية إذ هي تقام بمناسبة اختيار الرياض عاصمة للثقافة العربية هذا العام، وقد سألنا وسئلنا عنه فلم نجد إجابة شافية، وكانت مناسبة نتذكر فيها بعض سفرائنا الميامين الذين لا تقوم مناسبة ترتفع فيها للمملكة راية إلا وكانوا في مقدمة الحاضرين، كالشيخ محمد الحمد الشبيلي، والأستاذ محمد المنصور التركي والأستاذ جميل الحجيلان والدكتور غازي القصيبي، والدكتور عبدالعزيز خوجة والأستاذ عبدالمحسن البلاع وغيرهم. * عضو مجلس الشورى