أن تمر بالشوارع في لحظة تأمل، واستدعاء، ستجد أنك كل يوم تفاجأ بإضافة، وتغيير، لن تأخذك الدهشة، ذلك لأن طبيعة كل شيء على وجه الأرض أن يتغير، ثم إن هنا إنسانا يعيش بنبض يتحرك بالحياة فيه، يميل لأن يحسِّن من سكنه، وموقع عمله، ودرب قدمه.. وهو متطلع لا للثبات في شؤون الحياة، بل هو لا يسكن البتة، السكون له موات،.. لكنك قد تذهب إن كنت ممن لا تعنيهم المظاهر، وبريقها لأن تتساءل: ولمَ يتطاولون في البنيان..؟ ولم يوسعون الحجرات، ويكثرون الممرات..؟ ألا يكفي الإنسان من المكان مساحة جسده حين يمده للراحة والغفوة..؟ ومساحة جسده حين يجلس ويتحرك..؟.. في الشوارع حين ترتادها، تعلم تماما نوايا الناس، وطموحاتهم، وتطلعاتهم،... في ألوان العربات وتصنيفاتها، وقيمها، وأحجامها... بل كثرتها.. وأشكال البناء، وهندسة عماره، وأحجامه، ومواقعه، واجهاته، وأدواره.. أعداد الناس، وحركة ارتيادهم للأسواق، وما على مداخلها من الأسماء، والتصنيفات تخبرك بما تحويها، وتقدمها لهم.. من الغذاء، والكساء، وتلبية الحاجات.. والزيادة عنها.. وأي حاجات لإنسان المدن الكبرى والصغرى كذلك، كذلك في القرى التي تحولت لمدن صغيرة مقارنة بالذي مضى من زمن الناس.. تتفكر كيف هي ثروات الوطن قد تحولت من باطن الأرض خاما غارقا في الصمت، لدم يضخ بما في حيوته من الصوت.. فتفرح.. لكنك تبحث عن المصانع التي تقدم مؤونة البناء، وأنماط الكساء، وألوان الغذاء، وهذا الحشد المتحرك في أسرابه على الطرقات، وفي شوارع الأحياء من كل جامد وناطق، حتى أعمدة النور، وأحذية الأقدام، والمركبات الصغيرة والكبيرة، بل الورق الذي يندس بهدوء بجوار مقاود العربات، يسجل فيه المرء ما يعن له، أو قد حبر فيه سواد ليله وضوء نهاره،.. وجهاز هاتفه يلتقي به أي صوت يقصده.. فلا تجد للمصانع أبنية، ولا تسمع لها هديرا.. وتمضي في تأملك، ما مدى استهلاكك السريع، وأنت في عبورك بالطرقات، والشوارع قد توقفت قليلا لتحصل على بعض نقود من جهاز صنع بعيدا بعيدا،.. وتخرج من عربة كانت ضمن رفيقاتها محملة لك من بعيد بعيد، وتطأ الأرض بحذاءين قد جلبا لك من بعيد بعيد، تدس يدك في جيبك الذي جاءك نسيجه من بعيد بعيد، تبتاع حلوى أو آيسكريم، أو تشري باقة ورد لمن ينتظرونك في البيت، أو المصحة، فتجده قد اقتطف من بساتين بعيدة بعيدة، تحملك عربتك للمصحة لزيارة قريب، أو صديق لن تجد في الملاءة التي تحته، أو السرير الذي يحمله، أو الدواء الذي يتناوله، أو الأجهزة التي تمده، أي انتماء لبصمة يدك، كلها قادمة من بعيد بعيد،.. لا تجد أن أي شيء يمت لك فيها، إلا جسدك، وأنفاَسك، وصوتك، ونقودك، والأرض التي تقلك،.. تعيد الكرة في انتهاب المسافات التي مررت بها، لتعود أدراجك لبيتك.. تمسك بمفتاح باب بيتك، وقبل أن تلج تتأمله، فإذا هو استقر بين يديك من مصنع بعيد بعيد.. قد تركض تفكر كيف تحصد مالا كثيرا يناسب كل ما تحتاج أن تطلبه مما جاء من بعيد بعيد... وقد لا تفعل أبدا.. قد تتفقد ذاكرتك، تستعيد شريط مرورك بطرق مدينتك.. قد تتخيل أن كل شيء فيها يقف له مصنع، أنت من يدير آلاته، أو يرسم مواصفات منتجاته، أو يلون محتوياته، من يسمع هدير آلاته.. فتجد كفك خواء.. وأملك يتسع، ربما، قد تعيد النظر فيك نفسك، وحينها قد تتخيل ما الذي ستحصده من شعور..؟ ألا تحتاج حينئذ لأن تحيل جزءا من جهدك، وشعلة في طموحك لأن تكون صانعا لا مستهلكا..؟ ولأن تتخلص من كثير ، لتتمع بحياة أيسر وأسهل.. بل بنكهة ذاتية أكثر متعة ولذة..؟.. وربما قد لا تفعل البتة، تمر بالطرقات والشوارع، وتفعل كل الذي تمارسه كل يوم دون أن يخطر في بالك أمر، سوى أن تزداد دهشة وأنت تفغر فاهك لهذه الكثرة في كل شيء، دون أن يعنيك التفكر من أين جاءت.., طالما أنك تملك القرش الذي تبتاعها به.