كأنه توفي البارحة، كأنها دائماً لوعة الليلة الأولى، ما زالت دموعي بالملوحة نفسها، لا شيء اختلف.. لا الصمت ولا الألم والمرارة. ما زال حضوره قوياً طاغياً في القلب والعقل والفكر والوجدان.. يبدو أن رجلاً مثل أبي وكل الرجال أمثاله لا يموتون، بل يحيون حين يلفظون أنفاسهم الأخيرة. حينما ودع والدي الحياة لم أصدق ذلك، بل اعتقدت أنه كابوس سأفيق منه وأحكي له بدهشة عنه، حين أقبل يديه، وأطلقه في الجو مع زفيري المحمل بالخوف والفجيعة، وأختم الموقف (بحمد الله وشكره) على أنه كابوس لا أكثر وأمضي في هذه الدنيا سعيدة مطمئنة بوجوده بجانبي، فهو السند والأمن والحضن الذي يجعل للحياة لوناً ومعنى! فهو من كان وطني وأماني عندما يحاصرني الخوف، وجبيني عندما تتوه الأفكار، وزفيري عندما يدخل شهيق لا طريق له. ولكن.. ومع الأيام وجدت أني أعيش كابوساً بنكهة ولوعة الواقع، وأحمل على أكتافي الضعيفة فاجعة ثقيلة المعيار، انتظرت أن أستيقظ، حاولت أن أغسل وجهي وروحي لعلي أفيق من هذا الحلم الأليم، وإذا بي أراه واقعاً لا يقبل التغيير وفجيعة صارخة لا تقبل التشكيك، وأستقبل صدمات تتوالى كل دقيقة، وأحبس دموعي ولكن البكاء يندفع بقوة قادماً من قلبي الجريح ليصدم بحلقي فأكتمه بصعوبة فيعود إلى صدري أشلاءً وألماً وملحاً ويبقى رحيله حرماناً مقيماً بين ضلوعي. حينما ودع أبي عصام الخميس - رحمه الله رحمة واسعة - اعتقدت أن أسرته فقط هي من ستفتقده، ظننت و- بعض الظن إثم - أنه غالٍ علينا نحن وحسب، وأنه يملك مكانة عالية وشامخة في نفوسنا نحن دون البشر.. وإذ بي أتفاجأ أني أمام شخص يمتلك شعبية واسعة ممتدة عبر ربوع المملكة كلها من أقصاها إلى أقصاها، وإني ابنة رجل عظيم له أحباب وأصدقاء يقدرون بالآلاف، وأن له في قلوب الناس ووجدانهم حب وتقدير ومكانة لا يفهمها ولا يعرف قيمتها إلا من قابله وتعرف عليه. فقد توافد المعزون أفواجاً غفيرة تسابقت العبرات على وجوههم، ولم تطعهم دمعاتهم بالتماسك حينما سقطت معلنةً قصة فراق غالٍ وحبيب، منهم من قطع مئات الكيلومترات ليصلوا عليه ويقوموا بواجب العزاء والمواساة لأهله، أتوا من كل مناطق المملكة والفاجعة تنطق في وجوههم وقلوبهم، جاءوا محملين بمشاعر حزينة تنهش أرواحهم الطاهرة في حبها والصادقة في نقاوتها، كلٌ في جعبته بصمة من الفقيد وقصة قديمة عن أخلاقه وروحه الطيبة وسجاياه الندية، ومواقف فيها من الشهامة والإنسانية والأخوة الشيء الكثير، ليتك ترى يا أبي هذا الصخب الحزين وسيول الدمع الذي ذُرف ثقيلاً مدراراً لفراقك فأنت من كان يردد بيت الإمام الشافعي: سلام على الدنيا إن لم يكن بها صديق صدوق صادق الوعد منصفا فهنيئاً لك بأصدقائك وأحبائك الكثر، وبأطنان الدعاء التي صعدت إليك عبرهم، وهنيئاً لنا بك، بهذا الذكر الطيب والإرث الثمين الذي تركته لنا. فمن خلال هذا المنبر وباسمي وباسم والدتي وإخوتي وأسرة آل خميس كافة، نتقدم بالشكر لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز رجل العطاء والوفاء على وقفته الكريمة مع الأسرة وأدائه الصلاة على والدنا فهو من أثبت أنه الأمير القائد الإنسان القريب من المواطن، والحاضر بهيبته في السراء مهنئاً ومباركاً، وبالضراء مواسياً ومعزياً، فدمت لنا نعم القائد والقدوة وكل الأمراء وأصحاب المعالي الوزراء وكل الأوفياء المخلصين الكرام، فقد كنتم خير إخوة لأبي في حياته وبعد رحيله، شكراً لعزائكم الحميم ومواساتكم التي أبكتنا كما بكينا رحيل حبيبنا.. لقد كان عزاءً عندما عز العزاء. وإن أنسى فلا أنسى أن أقف احتراماً وتقديراً لوالدتي التي ساندت والدي طيلة حياته وتحديداً في فترة مرضه، وأمام الموقف الأخوي الإنساني العظيم الذي قام به أعمامي (محمد وعدي وطارق) وعمتي (أسماء) بمرافقتهم لوالدي أثناء رحلته العلاجية في أمريكا فقد قدموا لنا درساً رائعاً بالوفاء والأخوة، وكافة أفراد الأسرة الذين بقت دعواتهم حاضرة وحارة طيلة فترة العلاج، ولشقيقي عبد الله الذي لازم والدي منذ بدايات مرضه وحتى يوم سفره للولايات المتحدةالأمريكية. ختاماً.. ما أصعب الوداع وما أحر جمرته ولكنه قضاء الله ومشيئته وما الناس إلا شهوداً لله في أرضه. وما الموت إلا محطة سنصلها جميعاً.. فيا رب رحماك له ولنا، ووداعاً يا رجل الحضور الصاخب والغياب الأكثر صخباً. فإلى الله وإلى سدرة المنتهى ثم إلى جنة المأوى وكأس الأوفى والرفيق الأعلى وإلى اللقاء في جنان الرحمن بإذن الله تعالى. نبض الضمير: (إلهي أتاك اليوم ضيفاً فلقّه مقاماً كريماً بالجنان موشحاً) لبنى بنت عصام الخميس