الشيء الذي لا يعرفه القارئ ومن الصعب أن يعرفه هو أن مقال الكاتب يمر بعدة مراحل حتى يصافح عيون القارئ (يصافح هذه ليست من عندي وإنما أخذتها من بعض الأخوات الكاتبات). وهذه المراحل تتنوع ولكن كلها تصب في شيء واحد هو تعديل المقال وتصحيحه. تعلمت منذ نعومة اظفاري (أيضاً نعومة ليست من عندي) أن أحرص على الترقيم. والترقيم هو الحرص على تقسيم الكلام بالنقاط والفواصل وغيرها حتى يسهل على القارئ متابعة أفكار المقال. ولكن ما تكتبه في البيت ترى خلافه على صفحات الجرائد. إلا إذا كان المقال بلا طعم أو لون أو رائحة. ولكن ما يعزينا في هذا المجال أن هؤلاء الذين يحذفون بعض علامات الترقيم يقدمون لنا خدمة جليلة. معظم الكتاب لا يميز بين أن وأخواتها وكان وأخواتها. وبذلك يسدي لنا هؤلاء جميلاً عظيما ولولاهم لافتضح أمرنا. عندما كنت محررا في الصفحات الثقافية انتشرت قاعدة تقول إن (على الكاتب أن يطور أدواته) وكنت أقول إن أهم أداة بالنسبة للكاتب هي اللغة فطلبت من رؤساء التحرير الذين عملت معهم عدم تصحيح المقالات والقصص والقصائد التي يريد أصحابها نشرها في الصفحات الثقافية، فالكاتب في الصفحات الثقافية يجب ان يكون ملماً باللغة التي يكتب بها ولم أعلم إلا مؤخرا أنني كدت أُخسر هذا الوطن المعطاء 90% من كتّابه العظام. وإذا كانت علامات الترقيم ضحية المسافة بين الكاتب والقارئ فهناك شيء أهم منها وهو حذف الكلمات التي لم نتعود قراءتها على صفحات الجرائد. مما يمنع تطور قاموس خاص بكل كاتب فكلنا يجب أن نعتنق افكارا واحدة وبالتالي علينا جميعاً أن نكتب في مواضيع واحدة في هذه الحالة علينا أن نستخدم قاموسا موحداً، فلو أخذت جريدة أي جريدة وتابعت 90% من الكتاب ستلاحظ أنهم يطرحون نفس المواضيع بنفس التوجه وبنفس العبارات، هل سبق لك ان قرأت عن الحب على صفحات الجرائد السعودية؟ أمسك كل القصص التي كتبت في العشرين سنة الماضية لن تجد فيها قصة حب واحدة، فكلمة حب ومشتقاتها هي من الكلمات المخيفة التي توقظ حس الرقيب عند أي إنسان يشتغل في الصحافة. ومن الطبيعي بالنسبة لكاتب يترعرع في حضن الصحافة أن يبتلع الرقابة بكاملها في أعماق جمجمته فالحرية تعود والقيد كذلك. لم أبدأ هذا المقال للكلام عن الرقابة بل ليعرف القارئ أن ما نكتبه ليس بالضرورة هو ما ينشر سواء من ناحية الكلمات أو من ناحية الأفكار أو حتى من ناحية الصياغة والبناء، الإجراءات التي يمر بها المقال حتى (يصافح عيون!!) القارئ تغربله وتعدله وتجعله مناسبا للجريدة وليس بالضرورة مناسبا للكاتب أو القارئ.