هرمنا هرمنا هرمنا ونحن ننتظر، جملة أطلقها ذلك الكهل التونسي الأشيب فذهبت مثلا. تذكرت على الفور تلك الجملة المعبرة حين طلب ابني الطالب في الصف الثاني ثانوي أن أساعده في فك طلاسم الأبيات الأربعة عشر الأولى من معلقة امرئ القيس، علما أن الابن بارك الله لنا ولكم فيما أعطانا وأعطاكم يدرس في قسم العلوم الطبيعية وليس في المسار الأدبي. اتفقت معه على قراءة الأبيات الأربعة عشر أولا، ثم محاولة تفكيكها بيتا بيتا وكلمة كلمة وفهم معانيها بالتقسيط. سارت الأمور نسبيا على ما يرام بدءا من قفا نبك من ذكرى، عبر سمرات الحي وبعر الآرام وعرصات الديار، حتى وصلنا إلى: له أيطلا ظبي وساقا نعامة. هنا سيداتي وسادتي قفزت كالملدوغ وفتحت الشباك ورحت أصرخ مثل الكهل التونسي: سئمنا سئمنا سئمنا من هذا التكرار. في تلك اللحظة التي سمعت فيها كلمات أيطلا ظبي وساقا نعامة وإرخاء سرحان شعرت بكهولتي وبأن يد الزمن سحبتني بعنف مقدار خمسين سنة إلى الماضي. حينذاك كنت أنا أيضا طالبا في الصف الثاني ثانوي علمي، وكانت تلك القصيدة بجلدها وعظمها ضمن المقرر الدراسي ومعها أيضا الأبيات الأربعة عشر الأولى من كل معلقة من معلقات شعرائنا العظام العشر، وكأن الزمن لم يتغير والليلة هي البارحة. إنه في الحقيقة لم يتغير إلا شكليا، وهاهو امرؤ القيس وزهير وطرفة ولبيد إلى آخرهم مازالوا متربعين في نفس المكان وفوق نفس الكلام ويتوجب على طلبة العلوم الطبيعية حفظ الأبيات الأربعة عشر الأولى من كل معلقة وفهم معانيها، وفي الامتحانات الشهرية والنهائية سوف يكون كل شيء بحسابه. أذكر أيضا أننا كطلبة كنا نتذمر من غرابة تلك الأبيات وصعوبة معانيها ونتساءل عن فائدة حفظها عن ظهر قلب، وقد حصل أن سألنا مدرس اللغة العربية، وكان مصريا مرحا كما هو متوقع فأجاب: ما هو ده ياأولاد الكلام اللي قالوه أجدادكو أيام زمان. طب لما انتوا مش فاهمينه مين يعني اللي حيفهمه؟. لهذا السبب الوراثي الوجيه مازلنا نكرر نفس الكلام في زمن التويتر والفيسبوك والآي باد ومفردات التخاطب والتواصل الحديثة التي لا علاقة لها البتة بامرئ القيس ولا بحصانه وأيطليه وعرصاته وسراحينه. يا إلهي هل يدرك الناس في بلادي كم نحن مكبلون بالتكرار. إننا نكرر نفس الإرشادات والتعليمات والمعلومات والأسماء والتواريخ والقصائد والنصوص وخصوصيات كثيرة عفا عليها الزمن، بينما العالم من حولنا يقفز من طابق إلى طابق ومن أفق إلى أفق ومن معلومة حديثة إلى أحدث منها. نرى العالم من حولنا يتصرف بطريقة من يحمل معه عبر مسيرته ما خف حمله وغلا ثمنه ويترك ما لا حاجة له فيه. أما نحن فنتصرف بطريقة من يحاول اللحاق بالعالم حاملا على رأسه صندوقا خشبيا ضخما يحتوي على كل تراث آباءه وأجداده وأجدادهم، رغم إدراكه أنه بهذه الطريقة لن يستطيع اللحاق ولا حتى بغبار من تقدموا عليه في المسيرة. نحن هرمنا فعلا من طول الانتظار وسئمنا من التكرار، ولكن نرجو فقط حين يفاجئوننا الشباب وصراخه الهادر ألا نسد آذاننا ونتظاهر بالصمم لأن ذلك لن ينفع هذه المرة.