بكل صراحة فلو تم سؤال شخصي الضعيف عن أثرى تجارب العمر، بل أجمل الذكريات. لأجبت على الفور بدون تردد بأنها كانت سنين الدراسة في الخارج. ففي اعتقادي الشخصي أن البعد القسري المؤقت عن الأهل والوطن يضع الفرد وجها لوجه مع ذاته، إلى الدرجة التي يحس وكأنه يعثر كل يوم جديد على جهاز جديد في أعمق أعماق كيانه. ومع مضي الزمن تبدأ تتغير لدى هذا الفرد أشياء وأشياء، فتنقلب قوائم اهتماماته، الأمر الذي يترتب عليه أيضا انقلاب معادلة قيمة الأشياء في ناظريه، حيث تقل قيمة المحسوس المبهر، القريب إليه، مقابل صعود قيمة (المعنوي) البعيد عنه، القابع في أعمق أعماق كيانه. ورويدا رويدا يبدأ هذا الفرد يفتش هنا..، وينقب هاهنا..، ويبحلق هناك.. بحثا عن شيء .. يجهله/ يعلمه في خارطة المعلوم/ المجهول من عالمه.. وفي النهاية يعود أدراجه من حيث ابتدأ رحلة البحث.. يعود إلى ما ينقصه حقيقة.. ما ينقصه في الواقع.. إلى كل الأشياء.. أغلى الأشياء: الأهل والوطن. أستميحكم العذر عن هذه المقدمة (المقامية!) ، حيث لم أفصح بعد عما هو الموضوع الذي أنا بصدده..، لأبتدىء الآن فأقول : إن من أجمل ذكريات الغربة هي حين تجد نفسك في موقف ايجابي محوره وفحواه: الوطن. فقد يصادفك مثل هذا الموقف وأنت في المتجر، أو في الحرم الجامعي، أو في مطار مزدحم، أو في حديقة من الحدائق.. أو غيرها من المواقف الايجابية المتباينة التي لا يجمع بينها جامع إلا حقيقة تمحورها كما ذكرت حول الوطن.. فقد يصدف أن تلتقي شخصا لا تعرفه فيأخذ بالثناء على وطنك، أو قد يحدث أن يبادر أحد الأصدقاء، أو زميل من زملاء الدراسة الأجانب، فيزف إليك خبرا جميلا قرأه ذات صباح عن وطنك، أو قد تشعر ذات سفر بأن ثمة دلائل معاملة خاصة بك لكونك سعودي الجنسية، أو قد يحدث على سبيل المثال أن يعفيك ضابط مرور من تبعات مخالفتك لأنظمة السرعة النظامية وذلك بعد ان علم أنك سعودي الجنسية.. وغير ذلك الكثير من مثل هذه المواقف. وبالتأكيد فلا أخال هذه التجارب إلا رفيق سفر كل مواطن غيور على الوطن. ويبقى دائما وأبدا النقيض الشاذ الذي لا حكم له ولا لشذوذه، فالوطن ذات ومن لايقدر وطنه فحتما لا يقدر ذاته، إذن فليذهب الشاذ بشذوذه إلى الجحيم، فمن المحال على كل حال توصيف لا انسانية من يُقدم على مغادرة وطنه للغدر بوطنه، بل إن مجرد المحاولة علميا ولو لغرض تكوين فهم مبدئي لنفسيات مثل هؤلاء المرضى... تبدو هي ذاتها قبيحة عصية نفسيا. فلقد جالت هذه الخواطر في ذهني في أعقاب أن تمعنت في دلالات وسياقات ما نشرته جريدة الجزيرة منذ يومين من حديث أدلى به صاحب السمو الملكي وزير الداخلية حفظه الله خلال تدشينه للحملة الوطنية للتوعية الأمنية بالمنطقة الشرقية، حيث تطرق سموه الكريم إلى عدد من موضوعات الساعة المتعلقة بالأمن في الداخل والخارج. عليه ففي ضوء حديث سموه الكريم، تستعرض (شدو) في المقالة القادمة إن شاء الله مقتطفات مما تفضل به سموه، وتستقرىء كذلك بعضا من الأبعاد والحيثيات الاجتماعية والثقافية ذات العلاقة.