انتابني شعور بالهم والحزن عندما شرعت في كتابة هذه السطور - قبل سنوات - عن شاعر عاش تعيساً ومات مريضاً..ومصدر ذلك الشعور هو أنني عرفت الشاعر معرفة خاصة وتابعت أخباره أكثر من غيري بالرغم من أنني لم أعايشه إذ كنت في الطائف وهو في الرياض ولكني شهدت جانباً من طفولته وعرفت نشأته، وشهدت بعض أيامه في «مرات» و «الطائف». وزرته مرات عديدة في مستشفى شهار للأمراض النفسية بالطائف وكنت كلما رأيته أغالب الدمع.. وأحبس الآهات، فقد عانى هذا الشاعر البائس أكثر مما عانى أمثاله من الشعراء الذين ذوت أعمارهم في زهرة شبابهم إما بالمرض أو بالموت واختلف عنهم بهمومه الخاصة والعامة، وبمرض لا يرحم، فتشابه واختلف مع شعراء ماتوا في شبابهم المبكر أمثال كيتس وبودلير والشابي والتيجاني يوسف بشير وغيرهم. ولد شاعرنا عام 1358ه الموافق 1939م في بلدة ملهمة حفلت بالشعراء وظهر منها الكثير من الأدباء وهي بلدة «مرات» في إقليم الوشم بمنطقة الرياض، وهي البلدة التي ولدت ونشأت فيها حتى سن الثانية عشرة تقريباً، قبل انتقالنا للمنطقة الغربية في السبعينيات الهجرية. وعندما أعود بالذاكرة خمسين سنة للوراء أتذكر بيتهم الطيني البائس في زقاق (صابوط) مظلم بوسط البلدة وكان لا يفتح عادة للضيوف كبعض بيوت البلدة ذات الأسر المعروفة، فلم يكن فيه أسرة بالمعنى المعروف للأسرة فقد ماتت الأم والصبيّان وحدهما مما جعلهما يتجرعان مرارة اليتم منذ الصغر والأب الفقير لم يتزوج مرة أخرى حتى مات بعد أن بلغ من العمر عتيّا، لم يكن هناك بيت يليق بتربية وتفتح عبقرية فذة، أو تأجج موهبة عظيمة، كعبقرية وموهبة شاعرنا الفذ، كان الوالد فقط هو الأسرة.. ولهذا كانت أسرة ناقصة ومشلولة منذ البداية.. أما الشق الثاني من الأسرة فكان أخاً يصغره مصاب بالطرش وضعف العقل؟!. أما الوالد فهو شاعر مغمور باللهجة العامية وفيه لطف القرويين ولديه دكان صغير في السوق المركزي للقرية، ولم يكن الفقر وقتها ظاهرة فردية.. بل كان ظاهرة اجتماعية يغرق فيها معظم الناس.. ولذلك فإن الفقر - في رأيي - لم يكن السبب الأساسي في تعاسة الشاعر: حمد بن سعد الحجي كما يرى بعض من كتبوا عنه. كان شاعرنا شاباً نحيلاً أبيض عليه مسحة من الجمال الطفولي والرقة التي تقترب به من الأنوثة في مجتمع رجولي صارم، وعندما رأيته مرة يدخل علينا في الصف الرابع بالمدرسة الابتدائية ليعطينا درساً في الإنشاء بدل مدرس غائب، أدركت بإحساسي الصغير.. أن هذا الشاب الجميل والوديع سيكون عظيماً وكبيراً في حياته، وقد يعيّن مدرساً في المدرسة؟! بعد إكماله الصف السادس الابتدائي، وكان حديث القرية في ذكائه ونجابته وتفوقه.. مما ضخم لديه الذات وسلّط عليه الأضواء، وقد أشرت إلى ذلك في قصة كتبتها عنه قبل ثلاثين سنة بعنوان «هكذا يموت الأحياء»(1) وقد كتبت فيها أم «البطل» محسود؟! والحسد آفة تنتشر في المجتمعات الصغيرة كالمجتمع القروي.. والعين حق كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا زلت أظن وبعض الظن إثم أن الحسد كان من الأسباب الرئيسية لانتكاسة هذا الشاب الألمعي والشاعر العبقري. وكان يأتي إلينا في الطائف ويمكث أياماً لزيارة أخيه الذي كان متعثراً في دراسته ويشكو من أعراض مرض عقلي أو نفسي، وكان الشاعر لا يزال متألقاً.. وحيوياً. وأنيقاً؟! ولكن مسحة الحزن والتشاؤم كانت من سمات نفسيته المضطربة المتقلبة، كما كان الزملاء من أهل بلدته في الطائف وهم أكثر من عشرين شاباً يتلقون دراستهم في دار التوحيد ينظرون إليه نظرة دونية.. ويسخرون منه ومن موهبته الشعرية المتفجرة، ولعل الحسد وبعض خشونة الطبع القروي واللا مبالاة - من طرفهم - كانت تؤثر بلا شك على نفسه الحساسة. مرة كنا نجلس أنا وبعض أبناء عمي والزملاء في بيتنا بحي قروى بالطائف وفجأة أخذ الشاعر الحجي كتاب المطالعة العائد لابن عمي وكان على ما أذكر بعنوان (سعد ابن أبي وقاص) وكتب ونحن جلوس على ظهر الغلاف الداخلي للكتاب بعض أبيات قصيدته المشهورة «أيا باعث الشكوى» ومنها قوله(2): أيا باعث الشكوى بنفسي ألم يحن لقاء لكيلا تستبد بي الشكوى؟! بكيت ولو أني على الصبر قادر كتمت ولكني على الصبر لا أقوى؟ لقد ذقت منك الحب مراً مذاقه وإني لأرجو أن تصيّره حلوا! ألست إذا ما عنّ أمر لخاطري أتيت الذي تهوى وجانبت ما أهوى؟ فلو أن جسماً قد تقطع الجوى لما أبقت الأشواق مني ولا عضوا! إلى أن يقول: سكّنا بقروى والحبيب جوارنا فلله مغنى قد سكّناه في قروى! شربنا بها كأس الصبابة والهوى وحملنا يا ويحه أعظم البلوى! وكنت أظن الوجد شيئاً ميسرا فأمسي بروحي عاصف الوجد قد ألوى! كان ذلك عام 1379ه (حوالي 1960م) على ما أذكر وبعدها غاب الشاعر عنا غيبة طويلة.. ولكنه في تلك الفترة اشتهر في الرياض كشاعر محلق.. وكان ينشر في صحف الرياض حين كان يدرس في كلية اللغة العربية هناك، ولم يكن معروفاً في المنطقة الغربية.. إذ كانت الصحف هي الوسيلة للتعرف على الأديب أو الشادي، أما ديوانه فلم ينشر مع الأسف إلا بعد وفاته بسنة.. وقد عمل الأستاذ محمد الشدي رئيس جمعية الثقافة والفنون سابقاً على جمعه وإصداره فأسدى خدمة جليلة لذكرى الشاعر وللأدب والشعر السعودي، كما كتب عنه الدكتور محمد بن سعد بن حسين كتاباً صغيراً، وسبقهما الأستاذ عبدالله ابن إدريس في أيراد ترجمته وبعض نماذج من شعره في كتابه «شعراء نجد المعاصرون». الذي صدر عام 1380ه - 1961م. وعندما كتبت الصحف السعودية في الوسطى والغربية عن مرضه ومأساته أصبح معروفاً لدى الجميع.. وتعاطف معه أناس أفاضل وأمراء كرام ومنهم الأمير سلمان بن عبدالعزيز (أمير منطقة الرياض) الذي بذل جهداً كبيراً لعلاجه في الداخل والخارج.. دون جدوى - ويا للأسف فقد استحكم مرضه وتدهورت قواه العقلية.. ونزل مريضاً لعدة سنوات في مستشفى (شهار) بالطائف.. فكنت أزوره كل شهر تقريباً معي أحياناً الصديق: عبدالله الدلقان وأحمل إليه سجائر «الكنت» التي كان يدخنها بشراهة، وكنت أعود من زيارته وقد عصر قلبي الحزن والألم على حاله، وكان يبكي أحياناً عند زيارتنا فنبكي معه، وعندما سألته مرة عن أخبار الشعر تنهد تنهيدة مؤلمة وأشار بيده إلى ماض ولى ولن يعود؟! وقبل أن أختم هذه السطور عن هذا الشاعر الاستثنائي الموهوب والبائس معاً.. أشير إلى محطة هامة في حياته وهي ذهابه لبيروت في أواخر الستينيات الميلادية، وكان لبنان وقتها في أوج ازدهاره يبهر الأنظار ويخلب اللب ويتمنى كل مثقف أو أديب أو مضطهد لو عاش فيه وقد قال أحد الناس: (هني لمن له مرقد ... في لبنان) أقول لو (مع أن لو تفتح عمل الشيطان) قدر لأي جهة من الجهات الحكومية أن تصرف راتباً مناسباً أو تدبّر للحجي عملاً وتجعله يبقى في لبنان فلربما وجد الراحة التي ينشدها ولما تعرض لما تعرض له من معاناة طويلة وآلام مبرحة، ولو أنه تزوج هناك ومن هناك فلربما أبدع وكتب وأصبح واحداً من عمالقة الشعر المشهورين في الوطن العربي ولكنها إرادة الله، وقضاؤه الذي لا نملك رده. وهكذا عاش حمد الحجي بائساً أعزب، ومات مريضاً ودفن على ما أعلم في سفح جبل كميت الأحمر الوادع في قريته التي أحبها وتفتحت فيها مواهبه الشعرية التي لم يقدر لها الاستمرار والعطاء ولكن ما أعطاه من جميل الشعر في زمن قصير كان كافياً لإبقاء شمعة الخلود الأبدي متقدة لاسمه. مات مأسوفاً عليه قبل أن يبلغ الأربعين من عمره وعلى شفته هذه الأبيات التي كتبها قبل سنين من مرضه وكأنه يرثي نفسه قبل أن يرثيه أحد من الذين أحبوه أو أعجبوا بشعره.. ومنها: فوا لهف نفسي إن تناءت وفاتها ومرّ خريف بعدها وربيع وضاع سؤال النادبين كأنما خلت من جميع النابغين ربوع أرى هذه الدنيا تجيء بأهلها وتلهو بهم والكل بعد صريع أرى الموت مأوى للنفوس وكلنا سجود لدى باب الردى وركوع وما هو إلا صائح في بني الدنا ينادي وكل العالمين مطيع؟ رحم الله الشاعر الموهوب وعوّضه في آخرته خيراً من دنياه. ثم أليست هذه روح ونفس الشاعر الجاهلي (طرفة بن العبد) الذي مات شاباً ومنكسراً كشاعرنا الحجي؟! (1) نشرت في مجموعتي القصصية الأولى (مغازلات ومعاكسات) عام 1985م. (2) النص كاملاً في ديوان (عذاب السنين) للشاعر وقد نشر بعد وفاته؟! - مكة المكرمة