أثار الخبر المنشور في صحيفة الجزيرة يوم 21-1-1432ه تحت عنوان (طائر محمل بأجهزة إسرائيلية يهبط بقرية الضحايا ) حفيظة عدد من المختصين والمهتمين في مجال حماية الحياة الفطرية وإنمائها، وتناقلته عشرات الآلاف ما بين وكالات عالمية وقنوات فضائية وصحافة ومواقع ومنتديات عربية وأتخمت به محركات البحث على الشبكة العنكبوتية على وجه العموم وإسرائيلية على وجه الخصوص لمعرفة تفاصيل أسباب هبوط هذا الطائر الجارح في أراضي المملكة، لمزيد من إلقاء الضوء على هبوط هذا الطائر ونوعه وطبيعته وما يحمله من أجهزة مراقبة واستشعار عن بعد، وما أثير حول نوع هذا الطائر الجارح من تعليقات متخصصين وهواة، ننشر في هذا التعقيب المتخصص من الخبير الدولي الدكتور محمد بن يسلم شبراق (الأستاذ المشارك، رئيس قسم الأحياء بجامعة الطائف والمستشار للهيئة السعودية للحياة الفطرية، وعضو مجلس إدارة المجلس العالمي لحياة الطيور وعضو الاتحاد العالمي لعلوم الطيور). سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة - سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: تعقيباً على الكثير مما يُدار حول الموضوع الذي نُشر في جريدكم المعنون: (طائر يحمل أجهزة إسرائيلية).. وما نُشر حوله من تعليقات من قِبل متصفحي الجرائد على الإنترنت، حتى إن المواقع العالمية اهتمت بهذه التعليقات.. وتم ترجمة مرئيات الأفراد من خلال العديد من لغات العالم.. حتى أصبحت هي الأساس.. وذهبت بعضها إلى الحديث عن عقليات المواطن السعودي والعربي وجهله بالتعامل مع الطيور، مما أثَّر وسوف يُؤثِّر على هذه الأنواع من الطيور.. وعلى الدراسات العلمية التي يقوم بها الباحثون حول العالم على هذا الطائر.. ويُؤثر أيضاً على البرامج والجهود العالمية لحماية الحياة الفطرية على مستوى العالم بشكل عام.. وبالمملكة بشكل خاص بصفتها عضواً في العديد من المعاهدات الدولية الخاصة بحماية الحياة الفطرية كمعاهدة التنوع الأحيائي.. ومعاهدة حماية الأنواع المتنقلة (المهاجرة).. وهذه الأخيرة للمملكة دور كبير فيها بحكم مواقعها كرئيسة اللجنة الدائمة للمعاهدة خلال الدورة الحالية.. كما نسي الجميع في هذا الخضم التعريف بهذا النوع من الطيور والدراسات التي يقوم بها الباحثون حول العالم لحمايته بشكل عام.. وفي المملكة بشكل خاص. ورغبة مني في توضيح هذه الأمر بحكم تخصصي في علوم الطيور بشكل عام.. والنسور بشكل خاص.. وبالإضافة لموقعي كعضو في مجلس إدارة المجلس العالمي لحماية الطيور (BirdLife International)، وكعضو في اتحاد علماء الطيور العالمي، أحببت من خلال هذا المقال التعريف بالطائر وما تمَّ حوله من دراسات في المملكة والعالم.. والتي اعتمدت كثيراً على متابعة أعدادها وتحركاتها، وقبل أن أبدأ.. أود أن أشير إلى أنني مدين لهذا الطائر الذي يُعرف بالنسر الأسمر بأجر كبير من الله خير من حمر النعم.. فقد أسلم باحث إنجليزي كان اسمه ماتن فلودز (أصبح اسمه الآن محمد مارتن فلودز) خلال قيامه بدراسة في منطقة تنومة على هذا النوع من النسور.. وقمت معه بعدد من المسوحات بالمنطقة الجنوبيةالغربية، وبحمد من الله أصبح الآن داعية في جنوب أفريقيا.. وبالرغم عدم إكماله الدراسة إلا أن دخوله للإسلام يجعلني وكل من ساعدني من أهل تنومة في إسلامه.. والذين كان لطيبتهم وكرمهم الدور الكبير في المساهمة بإسلام هذا الباحث. النسر الأسمر يُعرف علمياً (Gyps fulvus) واسمه الإنجليزي (Griffon vulture)، ويتميز بطول رقبته وخلوها من الريش وطوق من الريش الأبيض على قاعدة الرقبة، يعشش هذا النوع من النسور في المنحدرات الجبلية والصخرية، وينتشر كثيراً في أوروبا وشمال أفريقيا غرباً إلى الهند شرقاً، وفي المملكة ينتشر بمناطق المنحدرات الجبلية على امتداد جبال السروات وفي جبال أجا وسلمى، وقد بدأت أعداد هذه الطيور بالتناقص بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة منها حتى إن العديد من المنظمات الدولية في أوروبا وآسيا بدأت في برامج حماية له منها: برامج التوطين في جبال الألب بفرنسا وسويسرا، كما قام عدد من الباحثين بدارسة أعداده عن طريق تعداد هذه الطيور بمواقع تعشيشها.. وهذا ما قامت به الهيئة والتي تم اختيار منطقة تنومة بعسير جنوب غرب المملكة العربية السعودية موقعاً لها، وقد أشارت هذه الدراسة إلى تناقص في أعداد الطيور المعششة بالمنطقة من 45 زوجاً خلال عام 1999م.. إلى 14 زوجاً خلال عام 2003م، كما قام عدد من الدول بمتابعة هجرة هذه الطيور حيث عُرف من خلال هذه الدراسات أن أراضي المملكة تُعتبر منطقة مهمة لعدد من المجموعات القادمة من أوروبا الشرقية ووسط آسيا وتركيا.. حيث تقضي فترة الشتاء.. وذلك متجولة بالأراضي السعودية، ومن هذه الدراسات دراسة قام بها باحثون من جورجيا وصربيا ودول أخرى مجاورة للمتابعة بواسطة الاستشعار عن بُعد.. وعليه فإن المملكة مهمة جداً لهذه الطيور لتقضي فترات الشتاء فيها هرباً من البرد القارص بالمناطق الشمالية من الكرة الأرضية، وأود هنا أيضاً أن أشير إلى أن المملكة بدعم من خادم الحرمين الشريفين.. وولي عهده الأمين.. والنائب الثاني.. ومن خلال الباحثين بالهيئة السعودية للحياة الفطرية أسهمت المملكة في تطوير أجهزة المتابعة بالأقمار الاصطناعية مع شركة مايكرويف تيليمتري.. حيث جرَّب أحد الخبراء العالميين ويُدعى بول جوريوب أجهزة المتابعة في مركز أبحاث الحياة الفطرية بالطائف على طائر الحبارى.. وذلك عام 1988م.. وكان حجمها في ذلك الوقت حوالي 150 جراماً، وقد شاركت شخصياً بهذه الدراسة.. وذلك بمراقبة سلوك طيور الحبارى.. وهي تحمل مثل هذا الوزن، كما كانت المملكة أول الدول العربية في تطبيق استخدام أجهزة المتابعة بواسطة الأقمار الاصطناعية.. وكان ذلك على النسر الأذون من خلال دراستي للدكتوراه بدعم من الهيئة السعودية للحياة الفطرية.. كما شاركت مع عدد من المنظمات الدولية.. وباحثين لدراسة أنواع أخرى لها أهمية عالمية.. وبعضها مهدد بالانقراض.. كالعقبان.. ومن أشهر من قاموا بذلك الباحث الألماني ملبيرج الذي أعطت نتائج الدراسة التي قام بها.. أن هناك أنواعاً من الطيور الجوارح تقضي فترة الشتاء بالمملكة.. كالعقاب الإمبراطوري والمهدد عالمياً بالانقراض.. وعقاب السهول، كما أن من الظريف في هذه الدراسات أن هذا العقاب الإمبراطوري سجل خلال خمس سنوات متتالية في نفس الموقع بمنطقة الطائف.. مما يؤكد أهمية المملكة للطيور الجوارح بشكل عام كمنطقة تقضي فيها فترة من حياتها بها.. وهي فترة الشتاء. والنسر الأسمر من الطيور المعمرة.. فقد دلت المتابعة لأحد هذه الطيور في الأسر إلى أنه يعيش حوالي 37 سنة، لذا فهو من الطيور المعمّرة.. ويضرب العرب المثل به لطول العمر «عمره عمر نسر».. ويُقال أيضاً أطول عمراً من النسر.. «وعمره عمر نسر».. وتلعب هذه الطيور دوراً في النظام البيئي.. حيث يضعها العالم في قمة السلسة الغذائية.. فهي تتغذى بشكل عام على الحيوانات النافقة من الثدييات الصغيرة أو الكبيرة.. فهي تخلصنا من هذا الحيوانات والتي ربما ماتت بسبب مرض أو خلافه، وأود أن أن أشير إلى أن هذه الطيور اجتماعية وتبني أعشاشها في مستعمرات قد تصل في بعض المناطق إلى 100 زوج في مستعمرة واحدة، كما تتعاون هذه الطيور في البحث عن غذائها بمساعدة بصرها الحاد.. فهي تقوم بالتحليق في الجو كل على مسافة من الآخر، وعندما يشاهد أحدها الغذاء فإنه يحلق فوق منطقة الغذاء بشكل يلفت فيه انتباه الطيور الأخرى.. والتي تستدل من طريقة طيران وتحليق هذه الطيور على موقع الغذاء. والنسر الأسمر من الطيور المعششة بالمملكة.. ويبدأ موسم التكاثر لهذه النسور في نهاية شهر ديسمبر.. وبداية شهر يناير.. ويستمر وضع البيض في بعض المناطق إلى بداية شهر مارس، ويعمل كل زوج على بناء عشه على المنحدرات الجبلية والكهوف، وتضع الأنثى بيضة واحدة فقط، يتناوب الزوجان في حضانة البيض.. وذلك لمدة 50 إلى 58 يوماً، ويصل الصغير لسن البلوغ بين 110 إلى 130 يوماً، ويبقى أحياناً بالقرب من العش معتمداً على أبويه في الغذاء مدة ثلاثة أشهر ليبدأ بعدها بالاستقلال عنهما، وعندما يصل عمره أربع سنوات.. وهو سن البلوغ.. ربما يعود لنفس المستعمرة للتعشيش.. وربما تقوم بالتحرك لمواقع أخرى والتزاوج من مستعمرة أخرى ضمن نطاق انتشارها، وهذا جزء مما يود العلماء معرفته بدراسة هجرة هذه الطيور بواسطة الأقمار الاصطناعية. أما فيما يتعلق بمتابعة هجرة الطيور بشكل عام.. فقد حاول الإنسان منذ القدم تفسير ظاهرة الهجرة عند الطيور وبذل الجهد للتعرف على اتجاهاتها والطرق التي تسلكها خلال هجرتها، وقد دوَّن أرسطو في كتابه تاريخ الحيوان أول المعلومات عن هجرة الطيور.. حيث سجل معلومات عن أسماء الطيور المهاجرة وأوقات وصولها ومغادرتها لليونان قبل 2000 سنة.. وذكر الجاحظ في كتابه الحيوان عن هجرة الأسماك والطيور، حيث أشار عن الأخيرة إلى أن «القواطع من الطير قد تأتينا من العراق جماعات كثيرة من الطيور تقطع إلينا ثم تعود في وقتها».. وقبل أكثر من مائتي سنة كتب أحد الأسرى النمساويون خلال أسره بمنطقة بالسودان أنه طُلب منه ترجمة ورقة كانت موجودة في عنق طائر الكركري تقول: «إذا وجدت هذا الطائر ومكان موته فأرجو إخباري».. وقد زادت الملاحظات المسجلة عن الهجرة بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك بإنشاء أول محطة لرصد الطيور المهاجرة على جزيرة ألمانية ُتسمى هيلجولاند بواسطة عالم الطيور هيرنش جاتيك، والذي يعتبر عمله أول دراسة علمية لدراسة هجرة الطيور في أوروبا.. وذلك عن طريق العدّ اليومي للطيور، بعد ذلك قام العالم الدنماركي مورتنسين في عام 1899م بإدخال نظام التحجيل وعلى مستوى أكبر، وهذه الطريقة تتم بإمساك الطيور ووضع حلقات معدنية على أرجلها.. ومن ثم إطلاقها مرة أخرى، والهيئة السعودية لحماية الحياة الفطرية هي أول من قامت بعمليات تحجيل للطيور بالمنطقة معرّفة باسمها.. وقد حجل أكثر من ستة آلاف طائر وسجلت مرة أخرى من روسيا وتشيكوسلوفاكيا.. وحتى من إندونيسيا.. وذلك لطائر بحري سجل بالخليج العربي عام 1994م. ومن الطرق الأخرى للمتابعة هي طريق وضع جهاز يُسجل موقع الطائر يعرف ب (GPS Data logger).. وهذا يحتاج إلى مسك الطائر مرتين.. مرة لوضع الجهاز.. والأخرى للحصول على معلومات، وإن كانت هذه الأجهزة قد تطورت في السنوات الأخيرة يمكن الحصول على المعلومات من دون مسك الطائر.. وهذا النوع من الأجهزة مشابه لما كان على النسر الذي مُسك بمنطقة حائل.. أما الطريقة الأخرى فهي عن طريق الأقمار الاصطناعية.. وهذه التقنية تطورت بشكل كبير.. حيث أمكن الحصول على أجهزة تصل إلى خمسة جرامات. وفي الختام أود أن أشير إلى أن حماية هذه الطيور بشكل عام.. والنسور بشكل خاص.. فيه حماية ومحافظة على النظام البيئي، والحفاظ على هذا النظام وسلامته جزء من حقوق الإنسان.. ليس بالمملكة فحسب.. ولكن بالعالم.. وقد علَّمنا ملك الإنسانية والدنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله وأطال الله بعمره وأرجعه الله لنا سالماً معافى- أهمية المحافظة على هذه الحقوق من خلال تدريسها ضمن المناهج الدراسية بالتعليم العام والعالي.. كما أن هذه الطيور المهاجرة هي ضيوف على هذه البلاد.. ومن الواجب إكرام الضيف، وأهل المملكة.. هم أهل الكرم وحملة راية الإسلام. د. محمد بن يسلم شبراق - أستاذ مشارك، رئيس قسم الأحياء بجامعة الطائف - مستشار غير متفرغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية - عضو مجلس إدارة المجلس العالمي لحياة الطيور وعضو الاتحاد العالمي لعلوم الطيور بريد إلكتروني: ([email protected])