تتلاقى العيون وتتصافح الأكف وتستسلم الوجوه لرغبة دفينة في التطلع للمكان المكتظ بالاروقة والمساجد والمحلات والمقاهي ووجوه الرواد والعابرين والمقيمين والسائحين حيث يحلو السهر والمرح والالتفاف حول كوب شاي يجترون معها الدخان والذكريات.. هذا هو المشهد الليلي في ميدان الحسين.. السهرات الممتدة حتى الصباح تضم الوانا شتى من البشر في كرنفال بديع جاءوا من الاحياء المختلفة، ومن كل انحاء المحافظات ومن كل الدول العربية يقصدون قضاء ليلة والسهر في الحسين.ورغم ان الاماكن تكتسب شهرتها من البشر وبمرور السنوات إلا أنه يوجد العديد من الاماكن تحمل اصالتها وتنبع شهرتها من ذاتها بالاضافة إلى البشر ومن هذه الاماكن منطقة الحسين. روائح التاريخ: أول ما يجتذب المرء لهذه المنطقة عند الدخول إليها سواء من ناحية شارع الأزهر أو من ناحية وسط البلد «منطقة العتبة»، هو الزحام المتدفق باتجاه الحسين، زحام تختلط فيه الوجوه الباحثة عن روائح البخور والتاريخ والاستمتاع بالمشهد الحسيني سواء امام مسجد الحسين أو على مقعد في مقهى وتختلف الرغبات باختلاف القاصدين. في الميدان الزاخر بالحركة ينتشر الباعة الجائلون ومحلات بيع العطور والاواني النحاسية والفخارية والهدايا التذكارية كما تنتشر المقاهي التي تعد من السمات المميزة لهذا المكان وتحمل شهرة كبيرة لقدمها وتاريخها الطويل ويقصدها الزائرون، ومن اشهر مقاهي الحسين مقهى الفيشاوي ومقهى نجيب محفوظ وكوكب الشرق وغيرها وهذه المقاهي يحرص الزوار على الجلوس عليها والاستمتاع بسهرة جميلة تمتزج فيها الضحكات مع عبق التاريخ المنبعث من المكان. فمقهى الفيشاوي هو اشهر واعرق مقاهي الحسين بل مقاهي القاهرة جميعاً. يقول عنه الاديب جمال الغيطاني في كتابه عن مقاهي القاهرة ان مقهى الفيشاوي يزيد عمره على القرنين من الزمان، واقيم في البداية ليكون ملتقى التجار القادمين من الشرق والغرب، وكان المقهى يقدم الشاي الأخضر الذي اشتهر به حتى يومنا هذا ووجوده في منطقة الحسين اضاف إليه شهرة كبيرة فقبل دخول الراديو لمصر كان بالمقهى مكان مخصص لرواية قصص السيرة الشعبية والملاحم وكان اصحاب المقهى يستخدمون رواة القصص من الهلالية ليرووا قصص ابو زيد الهلالي والظاهرية ليرووا سيرة الظاهر بيبرس وسيف بن زي يزن وعنترة بن شداد. وبتوالي الايام اصبح يرتادها الكتّاب والادباء والفنانون والدارسون بالازهر من مختلف البلدان العربية وانسجاماً مع منطقة الحسين ومبانيها بني المقهى على الطريقة العربية الإسلامية القديمة، وتميزت الأرائك والدكك بالنقوش الإسلامية، وشهد المقهى الندوات والسهرات الطويلة في مجالات الشعر والزجل والفكاهة والادب وكان يحضر هذه النداوت بيرم التونسي وأحمد شوقي وعبدالوهاب وزكريا أحمد ونجيب الريحاني الذين كانوا من رواد منطقة الحسين الدائمين ويأتي نجيب محفوظ ليجسد الشخصية المصرية والواقع المصري على نحو ما ظهر في زقاق المدق وبين القصرين وقصر الشوق والسكرية، كما شهد المقهى مولد اعمال ادبية عديدة كما شهد تكوين الوزارات السياسية ففي عام 1942م اذيع نبأ اقالة النحاس باشا وكان أحمد ماهر نائب الدرب الأحمر جالسا في مقهى الفيشاوي مع انصاره ساهرين في منطقة الحسين وخرج من المقهى إلى الوزارة مباشرة. وبجوار مقهى الفيشاوي يوجد مقهى نجيب محفوظ الذي تم انشاؤه بعد فوز محفوظ بجائزة نوبل في الأدب عام 1988م وأصبح مقهى نجيب محفوظ مقصداً للمبدعين ومحبي الثقافة والأدب وتقام فيه السهرات الفنية كل ليلة وعلى مسافة قريبة من المنطقة يوجد مقهى كوكب الشرق وهو ايضا مكان للالتقاء والسهر بجوار الحسين يتجمع فيه عشاق كوكب الشرق والأحبة والأصدقاء وهو يعد من أقدم المقاهي ايضا وكان يسوده عرف قديم منذ أكثر من نصف قرن وهو تقديم الشاي الأسود مع اللبن كمشروب اساسي فضلاً عن التعاون بين الرواد بمعنى انه إذا فقد احد رواده عمله لأي سبب توجب على الآخرين مساعدته ماليا حتى يجد عملاً آخر، والآن يقدم المقهى كافة المشروبات للساهرين. سر الانجذاب ليس من سبب محدد لتفضيل منطقة الحسين للسهر فيها بل ثمة عدة اسباب هكذا بادرني عبدالعزيز الغامدي من المملكة العربية السعودية وقال: ان هذا المكان رغم زحامه الشديد يقع في قلب مدينة القاهرة القديمة حيث الاصالة وايضا ربما يكون الزحام هو سبب آخر للانجذاب فلا تجد مكاناً يمتلىء بهذا الكم من البشر وبتنوع اعمارهم الا في هذه المنطقة كذلك قربه من الأزهر الشريف والعديد من المساجد الاخرى القديمة بما تحمله من معان اسلامية جميلة وايضا لوجود خان الخليلي الذي يتميز بالتحف الإسلامية الفرعونية القديمة، والمكان بشكل عام يكون ملتقى لجميع الفئات من الناس غير ان الشكوى الرئيسية كما يقول الغامدي واسرته هو مطاردة الباعة الجائلين والمتسولين وربما تكون هذه المنطقة مغرية لهم نظرا لوجود كم كبير من البشر. ويقول جمال أبو خضرا من الأردن: ان منطقة الحسين من اشهر المناطق الشعبية في مصر وتتمتع بصفات وسمات خاصة تجعلها المنطقة المفضلة لراغبي السهر من المصريين والعرب والاجانب فهي من اجمل المناطق الشعبية في مصر وفيها تفوح رائحة التراث المصري والإسلامي القديم حيث ان المباني والمساكن الشعبية القديمة والحواري والأزقة والمقاهي التي مازالت تحتفظ بطابعها التراثي الجميل والمحلات التي تمتلئ بالماهرين من اصحاب الحرف القديمة الذين تعتبر منتجاتهم من افضل ما يصحبه السائحون الوافدون إلى هذه المنطقة حين يسافرون إلى بلادهم، والأكثر من ذلك ان هذه المنطقة تحوي بداخلها خليطا أو مزيجا غريبا من البشر سواء من أهلها أو من الوافدين عليها ففيها من مختلف الجنسيات ومختلف الطبقات والثقافات ويرتادها كبار المفكرين والسياسيين والمثقفين وعامة الشعب والدراويش، ولعل هذا الخليط الغريب من البشر ومن الاشياء يصنع جوا جميلاً يحس به كل من يرد إلى هذه المنطقة خاصة اثناء الليل فلعله الحنين إلى التراث أو هو مزيج من هذا وذاك فأنا واحد من كل هؤلاء الذين يشعرون بالالفة مع هذا المكان ويفضلون السهر فيه في هذا الجو الخيالي. حكايات ممتدة: ويحكي راشد صقر من الامارات العربية المتحدة عن واقعة طريفة حدثت في منطقة الحسين فقال: اعتدت على قضاء بعض الامسيات في الحسين وذلك من سنوات طويلة فكل مرة ازور فيها القاهرة لا بد من قضاء بعض الامسيات في الحسين وفي احد هذه الامسيات واثناء البحث عن اصدقائي وسط زحمة الميدان فوجئت بمن يستوقفني ويرحب بي ترحيبا كبيرا على انني صديقه الذي انتظره لساعات طويلة فاندهشت وقلت له لست صديقك ولا اعرفك فقال هذا غير معقول وبعد أن تأكد له اني لست الشخص الذي ينتظره ضحك طويلاً وقال بتعجب يخلق من الشبه اربعين، وعندما وجدت اصدقائي وجلسنا على مقهى أم كلثوم وهو المقهى الذي نفضل الجلوس فيه حكيت لهم ما حدث وبعد مناقشة وتأمل وجدت نفسي اقول ان السبب في ذلك يعود إلى الزحام الذي يجمع آلاف البشر حيث تبدو الوجوه متشابهة، كما ان هذه الوجوه تأتي من كل اقاصي البلدان وهذا ما جعل الأمر متكرر الوقوع ويحدث دوماً واضاف ان منطقة الحسين بأزقتها واروقتها ومحلاتها المنتشرة ومقاهيها التاريخية لها سحر خاص يجذب إليه الجميع وكل من يرتاد هذه المنطقة مرة لا ينساها ويظل يرتادها كلما خطرت على ذهنه وأراد ان يقضي سهرة جميلة وسط حي عتيق كحي الحسين. ويقول راشد صقر عن ظاهرة الباعة الجائلين والمتسولين ومطاردتهم للناس وخاصة الرواد العرب يعد أحد المظاهر السيئة ولكن قد يكون في مطاردتهم نوع من الجرأة والمغامرة احيانا وتكون من الأشياء التي احب مشاهداتها. وعلى جانب الشارع التقينا بأسرة من البحرين وأبدت اعجابها بالمكان واكدت انها اعتادت على زيارته كل عام واثناء قضاء فترات الصيف بالقاهرة وقالت ان هذه المنطقة اكتسبت شهرتها من روحها وعبقها التاريخي فكل شيء هنا يوحي بالاصالة وان كانت الحداثة البادية في وجود بعض المحلات الحديثة وتواجد الشباب بكثرة قد طغى قليلا في السنوات الماضية ولكن يظل المكان بروحه . اما عن المظاهر السيئة فتقول تتلخص في مقاومة الباعة الجائلين والمتسولين وان كنا قد اعتدنا على وجودهم وكأنهم قد اصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المكان. واثناء تجوالنا التقينا بصاحب احد المقاهي الذي اكد ان سر الانجذاب لهذا المكان المعاملة الحسنة التي نقابل بها ضيوفنا وخاصة العرب فهم يأتون لمشاهدة الأماكن الإسلامية والاستمتاع برؤية المشهد الحسين كماً ويريدون الشعور بروح واصالة المكان الذي يعد من اقدم الاماكن فنقدم لهم كل ما يطلبون على الرحب والسعة واضاف: لي في المكان سنوات طويلة وكل عام ارى الاقبال في تزايد مستمر والبهجة والفرحة التي يحملها زوار هذا المكان وخاصة الاشقاء العرب . وعن تواجد الشباب في المنطقة من اجل التسكع أو للمعاكسات محمود حسن ينفي من مصر هذا الأمر ويؤكد ان كل ما في الأمر ان منطقة الحسين مكان مناسب ولائق للتلاقي فحينما تستضيف احداً يجب ان تستضيفه في مكان لائق ومناسب، كذلك الجلوس على المقاهي ليس به أي مظهرية لنا فهو مكان نشعر معه بالألفة وتجمعنا روح المودة والصداقة والمرح ولا أكثر وللعلم نخرج من هذه الجلسات بسعادة حيث نتفق احيانا على اعمال نود القيام بها وما شابه ذلك بالاضافة إلى قيامنا بشراء الهدايا والتحف النادرة من هذا الحي العتيق.