في أمسية من أماسي نادي جدة الأدبي، من شهر جمادى الأولى، من هذا العام الهجري المجيد «1422ه» حظيت بمكالمة أخوية من الصديق الأستاذ عبدالفتاح أبي مدين، رئيس النادي، يدعوني فيها لحضور أمسية شعرية يحييها ثلة من الشعراء في النادي وهم:«علي الدميني، وهاشم الجحدلي، ومسفر الغامدي». وحرصت على تلبية الدعوة لمكانة هذا النادي في قلبي، لما يقوم به من أنشطة أدبية متفردة، ولمكانة شعراء الأمسية أخويا وأدبيا في نفسي، غير أني لم أكن أعرف شيئا عن الشاعر مسفر الغامدي، ربما لضعف المتابعة عندي أو لضعف الذاكرة، لكن ما ان بدأت الأمسية، وانطلق هذا الشاعر ينشد ويترنم بشعره، حتى شعرت بالشعر يندلق عليّ اندلاقاً، ويتدفق من فيه في ثنايا القاعة فنّاً رائعاً، ملوّناً كالعصافير الجميلة طوراً، ومنداحا كالطبيعة الخضراء في بلاد غامد وزهران، والضباب الذي يغازل رؤوس الجبال وقمم الهضاب، فوجئت بشاعرية هذا الشاعر الرائع، وكان أصغر الشعراء المشاركين سنّاً، فزاد ذلك من روعته في نفسي، بعد أن كنت مشفقاً عليه من زميليه، فكل ما ألقاه كان جميلاً حسناً، ومدهشاً مبهجاً، وكان أحسن الأحسن قصيدته التي تحمل عنوان:«حيناً من الضوء..» ولأكون موضوعياً سوف أنجو بنفسي من حالة الاستحواذ وأواجه هذه القصيدة بعيداً عن التأثر المسبق. إن من يقرأ العنوان بنصب كلمة «حين» يتأكد أن الشاعر يعاني من ظلمة روحية ، فهو يطلب أن تمنحه الأيام وقتاً من الضوء الذي تتالت بعده النقط، مما يعني حاجته القصوى لهذا الضوء وما يصاحبه من أمور أخرى تحقق البهجة والسرور، ولكن حين تقرأ النص تجد أن هذا بالفعل متحقق بوجود ابنه «ضياء» الذي أهدى إليه القصيدة والذي كان عمره آنذاك كما فهمت من الشاعر نفسه ثلاث سنوات. فهو إذن يصف حالة قائمة لا حالة منتهية أو مستقبلة، فكان الأولى أن يكون العنوان:«حينٌ من الضوء..» ونلاحظ ان الحين مهمٌّ لدى الشاعر، لذا فهو يربط الحركة في النص بهذا الحين، ويعقد المقابلة بين إيقاعاته وإيقاعات ابنه من خلاله أيضاً: حين كنت أوطّن ساقي على الصمت: ألاّ تخطّ كلاماً على الأرض.. أن تستكين! كنتَ تسقط حيناً وحيناً تقف.. تتهجّى الطريق.. تمرّن ساقيك.. أن تكتبا الطرقاتِ ولو بعد حين..! لاحظ المفعول به في الوصلتين:(1 ساق صمت كلام حضر مع الفعل اللازم: تستكين)، (2 طريق ساقيك طرقات حيناً وهو ظرف زمان للفعلين: تسقط، وتقف)، لترى مدى الضعف الذي يعانيه الأب في الوصلة الأولى، والحيوية والفتوة التي تتدفق في الابن، في الوصلة الثانية. انصراف واقبال، وصمت ونطق، أن لا يخط كلاماً وان لا يتحرك لأب)، في مقابل ان يملأ الابن المكان سقوطا ووقوفا، والطرقات جيئة وذهابا، ويدرب فيها ساقيه، بل سيقانه على المشي، على الارتحال، بل نجد الشاعر لا يكتفي بذلك: بل يطلب من ابنه ان يكتب الطرقات، ويعرف مساراتها، وكل ممراتها، ومنحدراتها ومرتفعاتها، إذ التهجّي وحده ومحاولة التعرف لا تغني في هذه الحياة، إذن نحن أمام فتوّة ناهضة تنبثق من كهولة راسخة أوهنت خطاها الحياة، وخلصت الى تجارب منها صالحات، هذه الفتوة امتداد لتلك الكهولة السابقة، ملتصقة بها التصاق الجسد بالروح، والتاريخ بالتاريخ، وهي في الوقت نفسه توهم بالخلود وأنس الوجود، وترضي بعض غرور الانسان في البحث عن وليد وحفيد، وإمعاناً من الشاعر في إحداث هذا التوازن حرص على ان يختم الوصلتين بقافية واحدة:«تستكين حين»، ثم ترك التقفية في المقاطع الأخرى للجنوح الى الإحساس بالاستقلال والاستغناء: حين كنت أدرّب نفسي على محو بعض الكبائر كنتَ بالكاد تنجز بعض المعاصي: تكسر فنجان شاي وتهرق فوق المفارش كوباً من الماء..! كنتَ.. بالكاد .. تجترح المعجزات: تكون مشاغبة الريحِ إذ تحتسي العُتْبَ فوضى الحياة التي تجرف الأرض عند حجرٍ يلعق الشمسَ! üüü وإذا بدأ المقطع الأول بالتوطين، فالمقطع الثاني يبدأ بالتدريب، ويقابل بين الإدبار والإقبال، والانسحاب والحضور، ويؤقت بنفس وسائل التوقيت الأولى، لا بتقويم ميلادي ولا بتقويم هجري، ولكنه تقويم الأبوة والبنوة، القائم على التشكيل والتلوين في المراحل العمرية المختلفة، يستعمله الشاعر في لذاذة وهيام، ويعتمد فيه على الكنايات والاستعارات، في لغة شعرية جديدة مختزنة في الذاكرة اللغوية من هواجس هذا العصر ومعطياته، ورؤاه وإشكالاته وفي حنو الوالد على ابنه يقول له: ماذا تريد؟ أأكون حصانا لتغزو؟ أم طريقا لتمشي.. لا بأس.! للسهم أن يستقيم وعلى القوس ان ينحني.. ولا يسعك وأنت تختم هذا المقطع الأخير من القصيدة إلا أن تقف تحية للوالد و المولود، وللشعر والشاعر.. وعذراً للقارئ إذا ضاق بنا وبه هذا العمود!.