يأتي عرّاف الرمال من داخل عوالم الصحراء يستقصي احتمالات السواد ذلك هو شاعرنا الكبير محمد الثبيثي شاعر التضاريس يرحمه الله.. والذي وصف بأنه صاحب أهم تجربة شعرية حديثة في مشهدنا الثقافي السعودي، وهو أحد الشعراء الذين تمثل الرؤيا والاستشراف لديهم همًّا إبداعيًّا، يقول الشاعر الثبيثي في حوار مع الإعلامي تركي الدخيل: (القصيدة أصبحت عندي استشرافًا للمستقبل، وقراءة للواقع..)، وهو الذي يقول في قصيدة سماها (ترتيلة البدء): «جئت عرّافًا لهذا الرمل استقصي احتمالات السواد» ويقول: من شفاهي تقطر الشمس وصمتي لغة شاهقة تتلو أسارير البلاد يعلن الثبيثي أنّه سيستشرف المستقبل وسيقرأ احتمالات السواد بكل أبعادها ونتوءاتها، سيقرأ المستقبل مستخدمًا لغة العرّاف الفذ وأدواته القوية وهو الذي «تهجّى الحلم وتهجّى الوهم وعشق الزمن الوردي» تحول إلى (التضاريس)، حيث (التضاريس) الديوان الأهم في مسيرة الشعرية، وهو الذي جاء برؤى متنوعة، ولغة شعرية متدفقة، وقصائده مسكونة بموسيقى داخلية تتصاعد حتى تصل حدّ الغناء والنشيد، ولا تنفك المعاني لديه ذات الدلالات المتباينة.. ولغة الشاعر المكتظة بالكشف والاكتشاف تجعله يستطيع أن يأتي مستشرفًا للمستقبل. ففي قصيدة «أيا دار عبلة عمت صباحا» كان الثبيتي مستشرفًا لمستقبل الإنسان العربي ومستدعيًا لرمز عربي كبير في الفروسية والقتال والشعر وفي الحب والعفة وسمو النفس.. يقول: غريق بليل الهزائم سيفي ورمحي جريح ومهري على شاطئ الزمن العربي يلوك العنان.. نشر الثبيتي هذه القصيدة في عام 1984م محاطًا بهموم المرحلة ورمدها التي يمر بها الإنسان العربي، فها هو «عنترة العبسي» والذي جاء في النص رمزًا للقوة والبأس والانتصار، يأتي هذا العربي مهزومًا منكسرًا، فليل من الهزائم السوداء سقط كقطع الليل على السيف العربي الذي لم ينكسر ولم يتثلم آنذاك، يرى شاعرنا أن الموت والمرض والضعف والهوان يستفحل بهذا الإنسان بعدما جاء بعنترة من العصر الجاهلي ليستشرف المستقبل عبر سيف ذلك العبسي المقدام، فهذا الرمز الدال على الانتصار في زمن عربي قديم أصبح منكسرًا في الزمن العربي الراهن. ولعل استشرافه عبر استحضار الرمز العربي الذي جاء به من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث يفضي بنا إلى اكتشاف الهزيمة بكل أشكالها ولذلك دلالات تتجلى.. يقول: أعانق في جسدي شبحًا مثخنًا بالجراح ومرثية للكمي الذي ضاع من يده الصولجان وفي كل يوم أموت على الطرقات ويفترس الجدري ملامح عشقي ويمسخ لوني كأن حصاني لم يعزف الموت لحنًا فريدًا وحربًا عوان والشاعر هنا يرى موت الإنسان العربي في الطرقات، وأن المرض الذي يصاحب المرحلة يمسخ الهوية والملامح بفعل الهزيمة الآتية هكذا كان يرى، وهذه نبوءة الشاعر الشعرية تتحقق فها هو الإنسان العربي يموت في الطرقات في العراق وفي ليبيا وتونس وفي سوريا وغيرها.. ويمضي الثبيثي مستحضرًا الرموز العربية كرموز مثخنة بالتاريخ وبالحدث وبالوجع الطويل فتأتي: «دجلة / النيل / تيماء / زحلة / القيروان / غطفان، في سياق النص كرموز في الجسد العربي الذي يعاني من الآلام، يقول: على ساعدي يورق الجدب.. يخضر في ظلم مولدي قفي يا ابنة العمّ لمي بقايا أوردتي من الوحل... والثبيتي إذ يستعير لسان عنترة وسيفه ولسانه وشعره وحتى حبيبته ليؤكد ولادة الجدب والقحط الذي أورق، ونمى على ساعده، هو يرى بقايا أوردته يحتضنها الوحل، وينقع أوردته في جراح الليالي يقول: هآنذا أتمدد فوق بقايا رخائي وأصرخ.. واعبلتاه!! إن عنترة الرمز الأسطوري الكبير في الذاكرة العربية والذاكرة الشعرية يأتي من ساحات الوغي والصهيل والعفة عند المغنم إلى الهزيمة والتمدد فوق بقايا الرفات وها هو يصرخ (واعبلتاه). فعبلة هي الحلم / الأمة وعبلة هي الأرض، وهي الدار والأطلال وعبلة هي الذات وهي الهوية وهي الكرامة والشرف وهي الوطن المنتظر.. إن الإحاطة بالعوالم الشعرية الكاملة لشاعر التضاريس وسيد البيد ليس بالأمر الهين، ولعلنا ننتقل إلى نص آخر في ديوان محمد الثبيتي الأعمال الكاملة الصادر عن نادي حائل الأدبي في العام 2009م ونمضي سريعًا إلى قصيدته (موقف الرمال موقف الجناس)، يرتدي الشاعر محمد الثبيتي عباءة صوفية مطرزة بمواقف شعرية رؤيوية انطلق فيها من مواقف الصوفي النثري محمد بن عبدالجبار النفري يرحمه الله، مستعيرًا أسلوب النفري من كتاب (المواقف والمخاطبات)؛ فالعنوان إشارة أولى للرؤيا القادمة من إشراقات التصوف والعنوان هنا أيضًا (دال) عريض يفضي إلى مدلولات أخرى.. فجاء النص في بنية متصاعدة محتدمة في كثير من المقاطع وتصل بالمتلقي إلى فضاءات من النشوة والتأثير يتكئ فيها الشاعر على أدواته القوية وشعريته العالية في توظيف خلاّق متجدد، فالعنوان جاء ليستقصي احتمالات الرمال. والقصيدة جاءت حافلة باللغة الشعرية والجناس والمحسنات البديعية التي نجح الشاعر في توظيفها في تنويعات أسلوبية لتحمل أدوات الرؤيا، وتستعير إحدى أدوات (النفري) لكنها تمثل الاختلاف في البوح بلغة منشدة كنشيد صوفي غريب، فرؤيا الثبيتي جاءت لتقدم أزمنة كثيرة ومواقف متعددة. فيمسك الشاعر بأدوات النفري في المواقف عندما يقول (ثم أوقفني) و(قال لي). وتتعدد الإيقاعات الداخلية في بنية شعرية متصاعدة في القصيدة / الموقف (موقف الرمال موقف الجناس) وهي التي فازت ذات عام بأجمل قصيدة عربية في جائزة البابطين، ولم يكن الثبيتي حينها يبحث عن مشاركة أو ألقاب أو جوائز، غير أن أحد أصدقائه رأى الضرورة بإرسال القصيدة كي تنافس لثقته أنها ستحقق إنجازًا يليق بها، وأظن هذا الصديق هو الصحافي والمبدع منصور عثمان الزهراني وبالفعل فازت موقف الرمال.. موقف الجناس في مسابقة البابطين كأفضل قصيدة عربية، ورغم أن الشعر الحقيقي ليس بحاجة لخوض غمار المسابقات، وحتى استخدام أفعل التفضيل تجاه الأعمال الإبداعية لا يبدو مستساغًا، لكن ذلك يظل مؤشرًا على طغيان حضور قصيدة الثبيتي، فأدواته وشاعريته المطبوعة وغنائيته الحالمة تؤهله ليخوض تجربة الرؤيا بثقة كبيرة. يقول في موقف الرمال موقف الجناس: «ضمني، ثم أوقفني في الرمال ودعاني بميمٍ وحاءٍ وميمٍ ودال، واستوى ساطعًا في يقيني وقال: أنت والنخل فرعان أنت افترعت بنات النوى ورفعت النواقيس هن اعترفن بسر النوى وعرفن النواميس فاكهة الفقراء وفاكهة الشعراء ويظهر في النص اتكاءة الشاعر واستعارته لعبارات النفري في كتاب المواقف والتي رافقته في كثير من نصوصه (أوقفني - قال لي) يقول مستدعيًا حضور النفري برؤاه، ولكن بلغة الثبيتي المورقة بالدهشة. يأتي النص باستهلالية (العارف) بالرؤيا حين ضم الشاعر إلى صدره فهو يقول (ضمني) ثم أوقفه في الرمال وكأنه (موقف العارف) وإذا كانت مواقف النفري وبياناته الكاشفة تأتي في صوفية كاشفة إلى الماوراء فالشاعر ينطلق من رؤى النفري ومن رؤاه الخاصة ليشكّل لنا موقف الرمال موقف الجناس. إن موقف الرمال لدى الثبيتي يعتبر موقفًا لغويًا صوفيًا، والرمل أيضًا موقف مليء بالدلالات التي لا تنتهي عند حد معين وتتحول السياقات في النص إلى لغة تفتش عن وجه الرمال وأسراره ومواقفه ونجد أن مصطلح (الرؤيا) يحضر بشكل مباشر في قصيدة (ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء) يقول: كانتِ الرؤيا ربيعًا من جحيمٍ سُندسيّ اللونِ تجيء الرؤيا ويهجس بها الشاعر بشكل مباشر في بداية النص حيث الرؤيا (ربيعا من جحيم). وتمضي الرؤيا لتكشف له عن مشهد جديد يفاجئ به المتلقي حيث اللغة المغايرة والبديعة حينما يقول: هبطت «زنجية شقراء» في ثوب من الرعب البديع هكذا هو هاجس الرؤيا يجيء بالكشف وبلغة ليست مباشرة تجعل المتلقي يتحول من (مستهلك للنص إلى منتج له).. رحم الله شاعرنا سيد البيد محمد الثبيتي. (*) كاتب وروائي