* أمضيتُ أياماً هادئةً هذا الصيف ضيفاً على فاتنة المدائن .. باريس. * كان الطقس خلال تلك الأيام من أغسطس وشطرٍ من سبتمبرمتعدّدَ الأنواء. * مرةً .. تملأ شمسه الفضاءَ، فتشتعل الأبدان، وتبتَلّ الأطراف، ويعتصمُ الناس من سطوة القيظ ببقَع الظلّ المنتثرة هنا وهناك! * وأخرى ، تتدثّر الشمسُ برداء السحاب، تارةً تطلّ عبر ثقوبه في خفر العذارى، وأخرى تختبىءُ خلف ركامه، وكأنهما عاشقان يتناجيان لا تدري أيُّهما المتيّم بالآخر! * * * وأحياناً يُحكِم السحابُ سطوتَه على كل ما يدركه البصر، ثم تتسَلّل قطراتٌ منه إلى الأرض فتتناثر لآلىءَ تعطرّها أنفاسُ الندى، وتغتسل بها أوراقُ الشجر بعد أن أرهقها الصيف ظمأً وجفافاً! وكَمْ من مرة رجوتُ ربَّ ذلك السحاب أن يرسلَه مدْراراً إلى ديارنا الظامئة حيثما كانت! * * * وذات أصيل .. حملني الفضولُ إلى عدد من أحياء باريس القديمة والحديثة، وكانت جولةً ممتعة دامت عدةَ ساعات، بدْءاً من مقهى (الفوكيت) الشهير، مروراً ببرج (إيفل) ومتحف (اللوفر) و(نوتردام) وقلعة (الباستيل) وميدان (الأوبرا) وشقيقه (الكونكورد) بمسلّته التي تختال في الفضاء منذ عقود. * * * رأيتُ عبر جولتي تلك ما عقَد لساني دهشةً وإعجاباً: توأمةً حميمةً بين هيبة الماضي وشموخ الحاضر، فلا تنافرَ في الألوان، ولا تناقض في التصاميم، ولا تشوّه في الواجهات، وتسَلّلتْ من صدري آهةُ أسىً على ما حاق ببعض مدننا العربية، التي خلعَتْ حجابَ الماضي في عشوائيةٍ لا لونَ لها ولا هُويّة باسم الحداثة العمرانية، فتاهت بسببها خطاها بين القديم والجديد! * * * عدتُ فيما بعد إلى جادة (الشانزليزيه) الشهيرة التي تتحوّلُ كل مساء إلى (بحيرة عربية) يمخر عُبابَهَا الغادُون والرائحُون، ناهيك عن روّاد مقاهيها التي تنتشر على ضفّتيْها، وانتبذتُ مكاناً قصيّاً في أحد المقاهي بحيث أرى ولا أُرى! * * * رحتُ أُسائل نفسي: * ما سرّ احتكار جادّة (الشانز) لاهتمام الأشقّاء والشقيقات العرب، والخليجيين منهم خاصة، وكأنه لا يوجد في باريس ما يفتنُ البصَرَ والفؤادَ عداها؟! * واستعادت ذاكرتي السؤالَ نفسه يتردّدُ على أكثر من لسان، ووصف البعض الموقفَ بأنه (ظاهرة) تستحق التأمل، وشعرتُ لحظتئذٍ بعجز عن الرد على ذلك السؤال، ناهيك بتأمل معناه! * * * سألتُ نفسي بحثاً عن جواب: * هل هو الشعورُ بغُربة المكان.. يشدُّ بعضَنا إلى بعض لغةً وأُلفةً وعادات؟ * أم هو الحنين إلى الوطن البعيد يجعلنا (نقرأ) في وجوه بعضنا تقاسيمَه وتضاريسَه وآهاتِه وذكرياته؟! وتتداعى في أفئدتنا عبر تلك الوجوه ما ألفناه من كلام ورُؤىً وأحلام؟! * أم هو الفضُولُ وحدُه يحثّنا على مشاهدة هذا أو ذاك من (ربعنا) ممّنْ نعرفهم أو لا نعرفُهم أو لا يهمّنا أمرُهم؟! * * * وفجأة تراءتْ لي باريسُ مقبلةً نحوي من بعيد، وكأنها تبغي اختراقَ جدار الصمت من حولي، وانتشَتْ نفسي جَذَلاً بضيفتي الجميلة وأنا أقف مرحّباً أدعوها إلى الجلوس.. ورحتُ أمنّي النفسَ بجوار دافئ معها يبدّدُ صقيعَ الأسئلة الراكدة في أعماقي!