الظاهرة المكارثية، المنسوبة الى السناتور الأمريكي جوزيف مكارثي، كانت ردة فعل أمريكية الى خطر خارجي بنى له قاعدة في الداخل الأمريكي.. وجاءت ردة الفعل هذه نتيجة خوف امريكا من خلايا داخل مجتمعها تؤسس لتقويض بنية المجتمع الأمريكي.. وقد اتفق الجميع على اكتساب هذه الظاهرة مسمى«الخطر الأحمر»red scare . وكان الخطر الأحمر قد سبق الظاهرة المكارثية بعقود من الزمن حيث بدأ اول وهلة في الحرب العالمية الأولى نتيجة اعتراض افراد ومؤسسات دينية على الانخراط في التجنيد الإلزامي في الجيش الأمريكي.. والذي جاء كردة فعل لقانون أمريكي يلزم الشباب بالتجنيد استعداداً لمخاطر كانت تحيط بالولاياتالمتحدةالأمريكية من جراء استمرار الحرب العالمية الأولى.. وذروة «الخطر الأحمر» امتدت خلال الفترة من 1919م الى 1921م، وتحديداً بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى فرغت المؤسسات القانونية والسياسية الأمريكية لمحاكمة المعترضين على التجنيد، والمعترضين على الحرب عموماً.. وتم وصمهم بالجبناء، وبنواياهم التحريضية ضد الخط الأمريكي الرسمي.. وتم تحديد مؤسسات وأفراد بعينها كرمز لهذه الحركة المعارضة.. بعضها ينتسب اليها مهاجرون حديثاً الى امريكا، وبعضها من مسئولي النقابات العمالية الصناعية.. وكذلك وهذا ربما هو الأهم توجد من ضمنها الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والراديكالية حديثة التأسيس والتأثر بالثورة البلشفية السوفيتية التي انطلقت عام 1917م في روسيا القيصرية في ذلك الحين.. وخلال هذه الفترة حدثت اضرابات واسعة في المؤسسات الصناعية، وحدثت تفجيرات متفرقة في كثير من المدن الأمريكية.. ولكن كردة فعل قامت الحكومة بمهاجمة مراكز هذه الأحزاب والقبض على مجموعة كبيرة، وخلال يومين فقط تم القبض على أكثر من خمسة آلاف فرد، وتم ترحيل المئات الى روسيا وغيرها من البلدان الأروبية.. وكان وراء هذه الأعمال الانتقامية شخص اسمه«ميتشيل بالمر Palmer» المدعي العام الأمريكي الذي كان يعمل في كل مكان ويستفيد من الأضواء الإعلامية من أجل ان يصل الى كرسي الرئاسة الأمريكية.. ولكنهم لم يصل حتى الى ترشيح حزبه السياسي. ومن الأطروحات التي برزت في تلك الفترة أن هذه العناصر المتطرفة يجب أن يتم استئصالها من الولاياتالمتحدة، والبعض كان ينادي بتهجيرها الى احدى الجزرالبعيدة.. ورأى البعض ان هذا التوجه الرسمي يشبه الكيفية التي يريد بها الفرد ان يتخلص من شعر كلبه بحلاقة هذا الشعر كلياً.. ورأى البعض ان حلاقة الشعر تؤدي عادة الى تعزيز كثافة الشعر ونموه وبسرعة.. أما السناتور جوزيف مكارثي فقد لاقى شهرة هائلة في الأوساط الأمريكية بعيد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً مع بداية الخمسينات الميلادية ولعدة سنوات.. ونفس الفكرة التي كانت مطروحة في العشرينيات عادت من جديد، فقد انبعثت فكرة «الخطر الأحمر» من جديد. . ولعب عليها مكارثي اشواطاً اضافية، واتهم فيها مئات بل الوف الأشخاص بأنهم شيوعيون.. حتى انه اتهم مؤسسات حكومية امريكية بانها شيوعية، على سبيل المثال، ذكر ضمن اتهاماته بأن وزارة الخارجية الأمريكي يوجد بها أكثر من مائتي شيوعي... ولم يكفه ذلك بل ذكر بأن المدة الزمنية التي قضاها كل من روزفيلت وترومان في البيت الأبيض (حوالي عشرين عاما) كلها مثلت إدارة «حمراء» وصفها بأنها شيوعية الاتجاه.. وهكذا استمر هذا السناتور في ارعاب كل الأمريكيين وتخويفهم بكونهم شيوعيين أو متعاطفين مع الشيوعية الحمراء في الاتحاد السوفيتي او الصين.. ثم اتهم كثيراً من وسائل الاعلام الامريكية وكثيراً من منسوبي هذه الوسائل بأنهم شيوعيون كذلك.. وبعد ذلك بدأ في اتهام الجيش الأمريكي بأنه شيوعي النوايا والاتجاهات الى ان سقط والمتتبع لمجريات الشأن الأمريكي في الأيام الماضية التي تلت عمليات التدمير في نيويورك وواشنطن تتكشف له عدة ملاحظات: 1 تركت هذه الأحداث تأثير الهزة العنيفة التي تواجهها الدول أمام أحداث كبرى كالحروب او الصدامات او الكوارث الطبيعية.. ولاتزال الهزة تؤثر على مجريات اتخاذ القرار الأمريكي العسكري والسياسي والاقتصادي.. كما لم يتم حتى الآن احتواء الوضع والتعامل مع الحدث بقوة الدولة الأمريكية بل من خلال قوة رد الفعل العشوائي.. وردة الفعل الأمريكي توحي بانتصار الإرهاب على زرع البلبلة والفوضى في التفكير والقرار الداخلي والخارجي هناك. 2 لقد اوجز صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل عندما تحدث من داخل المؤسسات السياسية الأمريكية ومن خلال وسائل الاعلام هناك بأن الولاياتالمتحدة يجب ان تفصل بين مسألتين جوهريتين في المشكلة التي تواجهها، فرد فعلها ينبغي ان يكون في إطار تحقيق العدل، وليس بهدف إحداث انتقام.. والعالم يعرف ان العدل الذي يمكن ان يتحقق على الاشخاص المباشرين في هذه الحوادث هو غير العمليات الانتقامية التي يمكن ان تحدثها الآلة العسكرية الأمريكية في المدنيين الأبرياء. 3 الخياران اللذان طرحهما الرئيس جورج بوش امام العالم يدرك العالم انهما غير منطقيين، فإما أن يكون العالم مع أمريكا أو مع الارهاب. فإدارة الرئيس بوش تفرض هذه الثنائية على العالم.. ولامعنى لإمكانية أن يختلف موقف أي دولة عن الموقف الأمريكي ويكون الشخص او الجهة او الدولة ضد الإرهاب.. وهذه النزعة هي بالضبط التي كانت سائدة في المجتمع الأمريكي في العشرينيات من خلال «بالم» أو الخمسينيات من خلال «مكارثي».. والملاحظ ان الرئيس بوش سيعمل على زرع هذا الرعب داخل امريكا وخارجها من أجل تحقيق اهدافه الجديدة في العالم.. وكأنه يقوم بدور مشابه تماماً لما قام به السيناتور الأمريكي«الجمهوري» جوزيف مكارثي الذي سعى الى تخويف وترغيب المجتمع الأمريكي من «الخطر الأحمر» الذي كان يجسده في ذلك العهد المد الشيوعي.. وكأن المطلوب هو مساواة موقف العالم مع الإرهاب او ضده.. وتصبح الخيارات امام دول ومنظمات العالم مستحيلة في امكانية ان يكون هناك خيار ثالث وهو أن يكون ضد (ليس مع) امريكا وفي نفس الوقت ضد الارهاب.. 4 الملاحظ ان كثيراً من دول العالم تتفق من حيث المبدأ على محاربة الإرهاب، ولكنها تختلف في الطريقة التي يتم فيها محاربة الارهاب. [email protected]