منذ أن نشأ الإنسان وأنشأ الحضارة، ومنذ أن سن القوانين ونظم اللوائح وطبق الحدود لنفسه أو عليها منذ ذلك الوقت الذي لا نعرف سواه، يجوز لنا وصف هذا الإنسان ب (الحيوان السياسي). وهذا الوصف كان قد أطلقه أرسطو منذ قديم الزمان ليعبر به عن مدى تغلغل الهاجس السياسي في كل فرد من أفراد المجتمع. وأعتقد أنكم تعرفون أن كلمة «حيوان» هنا هي ترجمة عربية قديمة يراد بها الكائن الحي وليس فحسب الكائن البهيم الذي انفرد وحده بالتسمية! ونحن في علم المنطق نجعل من الحيوان «جنسا» عاما للإنسان الذي هو مجرد «نوع» من أنواعه الكثيرة والذي لم يتميز عنها إلا بالعقل، وإلا فإنه في غيرها نظير. ووصف الإنسان بالحيوان السياسي معناه أن السياسة والاجتماع السياسي هما مكونان لماهيته كإنسان؛ بحيث لا حيلة له في أن يكون غير ذلك، فلا خيار لأحدنا في أن يكون سياسيا أم لا. فمادام يعيش بين الناس، ومادام الناس يرتبطون مع بعضهم بعلاقات متنوعة ومعقدة، ومادامت هذه العلاقات محتاجة للضبط والتوجيه والمراقبة، ومادام ذلك كله في حاجة لسلطة...، فلا مفر إذن من أن نكون «سياسيين». في مقال اليوم سوف نقصر حديثنا على مفهوم «الأزمة السياسية»، وهو مفهوم يعبر عن وجود حالة خلل في الاستقرار السياسي، أو اضطراب سياسي معين؛ داخليا كان هذا الاضطراب أم خارجيا. والأزمة السياسة بكل حال تفترض وجود «عدو»، وهذا العدو لا بد أن يكون ناشطا وفاعلا، وبعبارة أدق «متربصا»، وهذا الافتراض قد يكون حقيقة وقد يكون استيهاما. وما أكثر ما يكون هذا «العدو» المسكين مجرد صناعة ذكية ل «للإعلام السياسي» الذي يستطيع أن يخلق الأعداء متى ما شاء ويفنيهم متى ما أراد، فهو لا يفكر بالعداوة أو الصداقة بل بالمكاسب التي ينتهي به المطاف إلى نوالها. وفي ظل هذه الأجواء السياسية المضطربة يكون أخف الناس ضررا هم «صناع» هذه الأزمة وهذا الاضطراب، وبتعبير آخر يكون المستفيد الأول بل والوحيد هو السياسي. وأما بقية أفراد المجتمع وفئاته فهي ممن يلحقها الضرر العظيم، مع العلم أنها هي وقود هذا الاضطراب وميدانه وغايته!!. ويكفي أن نسرد بعضا من المظاهر الاجتماعية للاضطرابات السياسية لنعرف من هو الخاسر الأول!. ولو سئلنا عن أهم مظهر من مظاهر الاضطرابات السياسية التي تحيق ببلد ما أو منطقة ما لقلنا إنه «التعصب الشوفيني»؛ والشوفينية كلمة تطلق على كل من يتعصب لعرقه أو وطنه أو قومه بوصفهم هم «الحق التام» و «الصواب المطلق» الذي يجعل كل من يختلف عنهم بله من يعاديهم مخطئا كأسوأ ما يكون الخطاء وما يكون خطؤه. وهذه الشوفينية ترى أن «النقد» والمساءلة العقلية خيانة وانخراط في صفوف الأعداء، بل إن من فظاعات التعصب الشوفيني أن المرء المتعصب ذاته يعرف أنه مخطئ ومنحاز، وأن قومه ليسوا هم «القوم» وشعبه ليسوا هم «الشعب»، وإنما مجرد شعب ومجرد قوم كبقية خلق الله، ومع ذلك يظل متسمرا في تعصبه. ومن مظاهر الاضطرابات والأزمات السياسية وانعكاساتها على المجتمع هو شيوع «المكارثية». وحتى لا ينزعج البعض من هذا المصطلح الغريب أشرحه بالقول: إنه يعود إلى شخصية سياسية مشهورة في القرن العشرين وهو السناتور الجمهوري الأمريكي «جوزيف مكارثي»، وقد ازدهر هذا السيناتور المشؤوم في فترة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، وهي الفترة التي ابتدأت بها «الحرب الباردة»؛ أكبر أزمة واضطراب سياسي عالمي عرفه القرن العشرين. وكان هذا الرجل يوزع الاتهامات بالجملة والتفصيل على كل من يخالفه منهجا وفكرا. وبالطبع كان " العدو" الذي تفترضه الحرب البادرة بالنسبة للسياسة الأمريكية الخارجية والداخلية آنذاك (ولا فرق بينهما على كل حال ) هو «الشيوعية». ولذا فقد وجد مكارثي في الشيوعية التهمة الجاهزة لكل من تسول له نفسه فيخالفه في الرأي !!. لقد بث الرعب في كل نفس؛ فإما أن تكون معي وإلا فإنك «موال» للشيوعيين الحمر!. ومن غرائب الأمور أن قوة مكارثي وصلت إلى درجة أن اتهاماته البغيضة طالت كثيرا من المثقفين والفلاسفة والأدباء المستقلين، بل حتى وزير الحربية في وقته لم يسلم منه، وهؤلاء لم يفعلوا سوى أن اختلفوا معه في الرأي. ولذا فالشوفينية وبالتالي المكارثية تغذي كل الآفات التي تهدد البناء الحضاري للأمة، ومن هذه الآفات العنصرية العمياء وتقييد الحريات الذي يترتب عليه خمول النشاط النقدي والفلسفي والعلمي. أجل، فليس هناك ما هو أبغض للإبداع والعلم من تقييد الحريات بدواعي الحفاظ على الأمة والأخلاق والقيم. وبعبارة موجزة يمكن القول إن المناخ السياسي المضطرب الذي يمهد لشيوع المكارثية ( أي: النزعة الاتهامية المغالية ) هو أفضل مكان لانتشار التعصب وانزياح التسامح وغياب الحرية. إن المكارثية التي تسود في وقت الأزمات والتي كثيرا ما تتسبب في خلق الأزمات هي ضرب من «الإرهاب الفكري والثقافي» الذي لا يقل سطوة وهولا عن الإرهاب الدموي المألوف. إنه، بالدقة، إرهاب للعقل وللروح حيث ينبغي عليك إما أن تكون «مع» أو «ضد».. وإلا فإنك خائن وعميل و «موال» لجهة ما، لا ندري ما هي على وجه الضبط!!. إن الإرهاب الثقافي هو الحصيلة النهائي التي يرومها الفكر المتطرف الشوفيني والمكارثي، وهو فكر رافض للنقد ولإبداء الرأي تحت رايات عدة؛ منها أن الأمة ليست في حاجة للنقد في مثل هذا الوقت العصيب (وهل هناك وقت ليس عصيبا من وجهة النظر المكارثية؟!)، ومنها كذلك أن الناقد يتهم بأنه «رافض» للأمة ومقدراتها التي لا أعرف متى كانت مقدرات ومنجزات إلا في وقت الأزمات المشؤومة. فالإرهاب الثقافي ليس سوى لعبة سياسية سرعان ما تذهب ويذهب معها بريقها ولكن المجتمع بعلاقاته وفئاته يظل موبوءا بها وبنتائجها المريضة، بل إنه يبقيها مستمرة ودائمة كنشاط حضاري غريب ومريب لا يجد له تبريرا أو تفسيرا اجتماعيا أو علميا أو عقلانيا من أية جهة!. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة