«حينما رأيت الدَّار التي كان يسكنها فقيدنا الكبير الشيخ عبدالعزيز بن باز يرحمه الله تجدَّد الحزن، وكأن شيخنا رحل الآن، وكأنني لم أرَ دارَه الحزينة من قبل». يا دارَهُ، أين منَّا الشيخُ يا دارُ أَلَنْ يراه على ما كانَ زُوَّارُ؟ أَلَنْ يعودَ إلى الطُلاَّب مجلسُه أَلَنْ تراه على الكرسيِّ أبصارُ؟ مالي أراكِ تزفّين الأنينَ إلى قلبٍ له في دروب الحزن أَطوارُ؟! يا دارَهُ، أين مَنْ لانتْ لحكمته صُمُّ المعاني، ولم تخذلْه أفكارُ؟ أين الحكيمُ الكريمُ الشَّهْمُ، كيف مضى كما مضى كوكبٌ في الأُفْق سَيَّارُ؟ وكيف غابُ، وليلُ العصر محتدمٌ كما تغيب عن الظلماءِ أقمارُ؟ وكيف موكبهُ الميمونُ مَرَّ، ولم يَرْجِعْهُ سَدٌّ، ولم تمنعْه أسوارُ؟ وكيف لم نُمسكِ النَّعْشَ الذي حملوا ولم نُقِمْ حاجزاً في دَرْب مَنْ ساروا؟ وكيف سُجِّر بَحْرُ الحزن واحترقتْ زوارقُ الصَّبْر حتى جُنَّ بحَّارُ؟ وكيف أسفرتِ الأيَّامُ عن سَفَرٍ طال الفراقُ به واستَوْحَشَ الجارُ؟ مسافرٌ، يا لَه مِن راحلٍ رحلتْ به عن الأهل والأَحبابِ أسفارُ مسافرٌ، غابَ حتى قال قائلُنا: من أين للفجر بعد الشيخ إِسفارُ؟ من أين للشمس بعد الشيخ بهجتُها من أين للبدر بعد الشيخ إِبدارُ؟ وهل سيُنتج نخلٌ بعد غَيْبتِه وهل ستُزهِرُ في الواحاتِ أَزهارُ؟ نيرانُ أسئلةٍ شبَّتْ على عَجَلٍ وليس للعقل تمييزٌ وإقرارُ ما قالَها قائلٌ، إلاَّ وفي فمه مِلْحٌ، وفي قلبه من حُزنه نارُ ما زال يَهذي بلا وعيٍّ، ويَجرفُه من شدَّة الحزن في الأعماقِ تَيَّارُ يا دارَه، أين مَنْ طابتْ منابعُه للواردين، وغيثُ العلمِ مِدْرَارُ؟ أين ابنُ بازٍ، خلايا العلم في يده مْلأَى، ومنها عقولُ الناسِ تَشْتَارُ؟ أين التَّواضعُ في أَسمى مَراتبِه تَواضُعٌ فيه للرَّحمنِ إِكبارُ؟ أين الذي طلَّق الدُّنيا، وفي يدها بوقٌ من الجاهِ والأَموالِ غَرَّارُ؟ وفوقَ هامتها تاجٌ لَه أَلَقٌ يُغري، وفي فمها للَّهو مِزْمَارُ طافتْ به، ثم طافتْ، ثم أَعجزَها مُرادُها فانثنتْ والعَزْمُ مُنهارُ أين الذي ردَّها بالزَّهْدِ صاغرةً ودرعُه آيُ قرآنٍ وأذكارُ؟ عَزوفُه كان إقداماً يُقِرُّ به للمتّقي درهمٌ يُجْبَى ودينارُ وكيف يركَنُ ذو عقلٍ لِفَانيةٍ في ثَوْبِ إقبالها يَخْتَالُ إِدْبارُ؟ كانَّها لوحةٌ في الماءِ قد رُسِمَتْ وكيف تَثبُتُ فوقَ الماءِ أَحْبَارُ؟ أو أنها نَفْثَهٌ من ثَغْرِ مُكتئبٍ لم يَبْقَ منها على المِرْآةِ آثارُ دُنيا وفي لفظها الأدنى حقيقتُها لمن يكون له سَمْعٌ وإِبصارُ يا دارُ، أين الحبيبُ اليومَ، كيف مضى وكيف أَسْعَفَكِ السٌّلْوانُ يا دارُ؟ أين الذي يَزدهي شعري بِمِدْحَتِه وإِنما تزدهي بالخير أَشعارُ؟ قالت ليَ الدارُ، والآلامُ واقفةٌ على مَشارفها، والحزنُ مَوَّارُ دارٌ دَهاها فراقُ الشيخ فانكفَأَتْ على جراحٍ لها في القلبِ إِعصارُ فِنَاؤها واجمٌ، والبابُ مكتئبٌ ترتَدُّ عَنْه بحرِّ الدمع أَنظارُ قالتْ لي الدار، والحيطانُ شاهدةٌ ومثلُها شهدَتْ بالحقِّ أَشجارُ: شيخي مضى في طريقٍ لا مَفَرَّ لنا منها إذا آذنَتْ بالموتِ أَقدارُ هنا، تَمَلَّكني صَمْتُ الحزينِ رأى أنَّ الحقيقةَ ما أَدلَتْ به الدَّارُ نعم، مضى شيخُنا والأَرضُ راحلةٌ غذاؤها في طريقِ الموتِ أَعْمَارُ مضى ابنُ بازٍ وفي الأذهانٍ صورتُه وعلمُه مَنْبَعٌ ثَرٌّ وأَنهارُ مضى وخلَّف بحراً من معارفه