لدى متابعة ما تورده وسائل الدعاية الصهيونية حول المواقف السعودية، يخلص المراقب الى ان هذه المواقف تسهم في تضييق عنق الزجاجة أمام المحاولات الإسرائيلية الرامية الى ارضاخ الفلسطينيين وتصفية قضيتهم، ذلك ان التوجهات السياسية السعودية تصنف في المنظور الإسرائيلي ضمن القوى الفاعلة في ساحة الصراع. وتبين تراكمات الأحداث، ان اسرائيل تضع أي خطوة سياسية سعودية على هذه الخلفية، بسبب انتماء المملكة لدائرة أعداء اسرائيل. ولا تخرج التصورات الاسرائيلية المتعلقة بالتحركات السعودية الأخيرة عن هذا الإطار، انطلاقاً من إدراك إسرائيل أن هذه التحركات تهدف الى مؤازرة الفلسطينيين، وضمناً مساعدتهم في استثمار الانتفاضة استراتيجياً وسياسياً. في أحكامهم على المواقف السعودية، يربط الإسرائيليون بين الذهني والمتعين ، ويشكلون إزاء هذه المواقف صورة خاصة، نمطية، مكتملة، واضحة المعالم، لا فرق في ذلك بين النظر الى الدعم السعودي المباشر للانتفاضة وبين السلوك السياسي للمملكة على الصعيد الدولي. كيف تبدو ملامح هذه الصورة؟! ما هي مكوناتها التاريخية والراهنة؟! وماذا عن المفهوم الإسرائيلي لدور المملكة في الصراع والسلام؟! وبأي طريقة تتعامل اسرائيل مع ذلك؟! السجل العسكري تحتفظ الذاكرة الإسرائيلية بصورة المشاركة السعودية في الحروب التي دارت بين العرب واسرائيل.: في حرب عام 1948 دخلت قوات سعودية «قوامها بين 3 4 آلاف جندي» الى فلسطين، وخاضت في مناطق السهل الساحلي الجنوبي عدة معارك اعترف المؤرخون الإسرائيليون بضراوتها. وخلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وضعت السعودية مطاراتها بتصرف الطيران المصري، وساهمت في نقل المؤن والإمدادات الى المواقع المصرية. وقاتلت القوات السعودية الى جانب القوات الأردنية «في منطقتي الكرامة وغور الصافي» في مواجهة العدوان الإسرائيلي عام 1967م. أما في حرب 1973، فقد شاركت السعودية في الأعمال العسكرية على الجبهتين المصرية والسورية، فضلا عن استخدام سلاح النفط. تدخل آثار هذه الوقائع في الحيثيات الاسرائيلية لوضع السعودية الى جانب دول المواجهة. وبالتالي يعدُّ السجل العسكري للمشاركة السعودية في الحروب ضد اسرائيل جزءاً رئيساً من عوامل تشكيل التصور الاسرائيلي الاجمالي للمواقف السعودية، وينطوي هذا التصور على توقيع انضمام السعودية مستقبلاً الى أي حرب تنشب بين العرب وإسرائيل. التوصيف التقليدي لا يقتصر الاهتمام الاسرائيلي بالسعودية على الجانب العسكري، راهنا ومستقبلاً، بل يتعداه الى نطاق اشمل يتم التركيز فيه على المكانة الاستراتيجية للسعودية، وفق تحديات اسرائيلية يتم فيها اعتبار المملكة: دولة ثقل مادي «بترو دولار» اقليمياً ودولياً. دولة دور مركَّب «استراتيجي سياسي أمني» في الخليج العربي والمنطقة العربية عموماً. دولة تأثير إسلامي فعال «ثقافياً واجتماعياً وسياسياً» على المستوى العالمي. يأخذ المهتمون الإسرائيليون هذه التحديدات بعين الاعتبار خلال تقديراتهم لمسألة الانخراط السعودي في الصراع العربي الإسرائيلي. وحسب التوصيف الشائع لدى اولئك المهتمين «بتعبيرات الباحث الإسرائيلي يعقوب غولد برغ» لا ترجع أهمية السعودية فقط الى قدرتها في السيطرة على سوق النفط الدولية وفي التأثير على استقرار الاقتصاد والاجهزة المالية في الغرب، وإنما تعود اهميتها ايضا الى القوة التي يمكنها استخدامها على الساحة العربية عموماً وعلى حلبة الصراع مع اسرائيل على وجه الخصوص. وهذا يعني أن السعودية هي قوة مقررة في شؤون الشرق الأوسط. عملية السلام كحالة تطبيقية إبان فترة البحث عن سبل تسوية الصراع، رأت إسرائيل في مشروع الملك فهد «1980» جزءاً من المحاولات العربية الرامية الى ما وصفه البروفيسور موشي شامير «إدخال إسرائيل الى المصيدة، بتصفية الإنجازات الإسرائيلية في حرب 1967م». وعشية انطلاقة عملية السلام الحالية، كان هناك تأكيد اسرائيلي عبّر عنه الياهو بن أليسار «الذي صار لاحقاً سفير إسرائيل بواشنطن» بأن السعودية تمسك مفتاح هذه العملية، بسبب مركزيتها في العالمين العربي والإسلامي بالاضافة الى مكانتها المالية والسياسية. وبرأيه «إذا قررت السعودية بأنه حان الوقت لكي يضع العالم العربي حداً للحرب ضد إسرائيل ويرفع المقاطعة المفروضة عليها، فلن تكون هناك جهة جدية في المنطقة تثور ضدها». وخلال السعي الإسرائيلي لتطبيع العلاقات مع الدول العربية، ثنائياً او عبر المحادثات متعددة الأطراف، وضع المسؤولون الإسرائيليون السعودية مع سورية، في مقدمة الدول المعارضة للتطبيع. وأعرب يوسي بيلين «الذي كان رئيس اللجنة الإسرائيلية لتوجيه المحادثات» عن وقع المفاجأة من موقف السعودية الذي كان مغايراً للانطباع بأنها ستسير مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في دفع المسيرة السلمية. وكان هؤلاء المسؤولون ينظرون الى دور السعودية في عملية السلام بأنه يشكل عقبة أساسية أمام تطوير شبكة علاقات اقليمية وبناء شرق اوسط جديد. وتوصل المشاركون في المناقشات التي كانت تجري ضمن وزارة الخارجية الاسرائيلية، الى ان السعودية لعبت دوراً سلبياً في كل مجموعات العمل للمحادثات متعددة الأطراف، وأن ممثليها منعوا وبشكل مدروس حدوث تقدم في تجسيد الأفكار والمشاريع المقترحة. وقدَّم الخبراء في تلك الوزارة معلومات الى رئيس الحكومة اسحق رابين ووزير خارجيته شمعون بيرس تبيَّن ان السعودية تعمل لتقييد التقدم في المحادثات، وتبدي موقفاً معيقاً لمسيرة السلام الثنائية بين اسرائيل وجاراتها. وحول العلاقة مع الولاياتالمتحدة حاولت إسرائيل استغلال الموقف السلبي السعودي من عملية التطبيع للتشويش على العلاقات السعودية الأمريكية. كما عمدت الى الدخول في أي إطار بين الرياضوواشنطن، بصيغة الطرف المتضرر الذي يتعين دفع التعويض له مقابل الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية بين السعودية والولاياتالمتحدة. وارتفعت أصوات إسرائيلية تشكو من نجاح السعودية في ليِّ ذراع إسرائيل بشأن عدد من الاتفاقيات. وعلى الرغم من إدراك إسرائيل بأن حجم العلاقات السعودية الأمريكية «في مختلف الميادين» أوسع بكثير من حساباتها، فقد ظلت تطرح نفسها كثروة استراتيجية للولايات المتحدة، وكحليف للغرب، في عالم عربي مضطرب «...» وطالبت بإشراكها في الترتيبات الخاصة بمنطقة الخليج. وقد تغذت هذه المطالبة على ما يبدو بالعقدة التي أصابت إسرائيل في حرب الخليج الثانية، بخصوص خضوعها للإملاءات الأمريكية وبقائها تحت السيطرة، بصرف النظر عن ثمن ذلك. تجدد الاستياء.. والتحسب في طوية جميع التوجهات الصراعية التي تتخذها إسرائيل، يجري تذكير الأمريكيين بالخطر السعودي الذي يتهددها في المجالات السياسية والعسكرية والجغرافية، وبأن الرياض تملك بيدها مفتاح السلام في المنطقة، لكنها تفضل إبقاء البوابة موصدة. وفي الحرب التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين، كانت تنتظر من السعودية والعرب عموماً الوقوف جانباً، للاستفراد بالانتفاضة وحرمانها من تحقيق أي إنجازات سياسية كبرى. لكنها لاحظت في الحال سلوكاً من نوع آخر، سار بالزخم ذاته وبصورة متزامنة وفق اربعة اتجاهات، هي: أولاً: تشكيل لجنة سعودية عليا لجمع التبرعات وصرفها ومتابعة وصولها الى مستحقيها في فلسطين دعما للانتفاضة. وقيام هذه اللجنة بتقديم المساعدات المختلفة «إلى: أسر الشهداء، المعاقين، الجرحى، عائلات الأسرى، العائلات المحتاجة، الجمعيات الخيرية، المتضررين من التدمير، دور الأيتام.. الخ» وقد بلغ مجموع هذه التبرعات حتى الآن نحو 160 مليون ريال. ثانياً: تقديم الدعم السياسي للفلسطينيين في قمتي القاهرة وعمان والقمة الإسلامية في الدوحة، والإسهام بربع المبالغ المخصصة لصندوقي الأقصى والانتفاضة «البالغة مليار دولار». ومواصلة هذا المنهج، في سياق العمل العربي المشترك المساند للشعب الفلسطيني، على الساحتين العربية والدولية. ثالثاً: جعل القضية الفلسطينية موضوعاً محورياً في المواقف التي عبَّر عنها قادة السعودية، داخل المملكة وخارجها. وقد توقف المراقبون عند مضامين الخطاب السياسي السعودي بالدعوة الى تخلي إسرائيل عن منطق القوة والغطرسة، واعتبار الاستيطان والاحتلال أصل البلاء، ودعم الشعب الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل، والتحذير من خطر سياسة شارون على مستقبل المنطقة، والتنبية الى الثأر العربي والى ان العنف لا يولد إلا العنف. بالاضافة الى دعوة الدول العربية لإعادة النظر في التعامل مع الشركات التي تتعامل مع اسرائيل اذا لم تنجح الجهود السياسية الحالية. رابعاً: الطلب السعودي من الولاياتالمتحدة انتهاج سياسة متوازنة وحازمة في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وانتقاد سكوتها على هذا العدوان الذي تستخدم فيه إسرائيل أسلحة من صنع أمريكي. وظهور تصريحات متفرقة لمسؤولين سعوديين في هذا المنحى. فضلاً عما تداولته وسائل الإعلام بشأن عدم تلبية الأمير عبدالله دعوته لزيارة واشنطن. لم تخف إسرائيل استياءها من المواقف السعودية والعربية المساندة للفلسطينيين، وظهرت تعليقات متعددة المصادر تعكس هذا الاستياء. فيما تعامل الإسرائيليون مع التفاعلات الجديدة في العلاقة السعودية الأمريكية بطريقتين مختلفتين، الأولى/ تتمثل بأنهم فركوا أيديهم فرحاً لتعمق الفجوة السياسية بين الرياضوواشنطن، والثانية/ تتخلص بالتحسُّب للاستجابة الأمريكية للمطلب السعودي وبما يؤدي الى ممارسة الضغوط على اسرائيل. فضلت إسرائيل خيار السلوك الصامت إزاء هذه القضية الحساسة، ولكنها بقيت في الوقت ذاته ترصد التحركات السعودية من موقع الترقب والحذر ضمن اجواء المأزق العام الذي تعانيه جرّاء سياسة حكومة شارون. وغني عن البيان أن أي مراهنة إسرائيلية على الخروج من المأزق هي مراهنة خاسرة، في ظل الإصرار الإسرائيلي على التنكر لاستحقاقات السلام. 'باحث ورئيس تحرير مجلة الأرض في مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية دمشق