رحلة طويلة كنت قد أمضيتها اليوم فقدت أشياء كثيرة من روحي، وأضفت أشياء أخرى جديدة، المندوب مازال في انتظاري وربما لحسن الحظ لم أجده، وجدت مندوبا بلحية أطول كثير الكلام صادق وبسيط، رأيت في هذا اليوم عشرات الوجوه، وعدت إلى البيت أنتظر صديقي الكناس قريب عمتي المريض بجلطة في القلب ولم أجده، دخلت وكأن البيت خالٍ إذ لم أسمع غناء أمي ومشاكسات عمتي، وحركة أختي في البيت تهادي ابنها « ساري» في الممرات، أخي الأصغر جاف لا يعرف لغة البين بين، الوحيد في البيت ليس بيني وبينه ود أبدا، سمعت أنه يشاكس أختي الكبيرة دائما، وينادي ساري ب« اليتيم!» ليغيظها، وجاء في بالي أصب على رأسه شيئاً من الغضب الذي رأيته، وأنتقم مما أصابني من تعب المسافات في الشوارع، ولم أجده في البيت نائما كما توقعت وفرحت، أحتاج إلى راحة طويلة فكنس الشوارع أفقدني صوابي وحساسيتي تجاه أشياء كثيرة، أحتاج إلي نوم طويل ليس كنوم أهل الكهف الذين قرأ الامام في صلاة الفجر عنهم سورة« الكهف»، وخلدت في نوم عميق شعرت قبل أن أنام، أني قد تعبت من هذا النفق الذي ليس لي فيه لا زرقاء يمامة ولا هم يحزنون، ربما قبل صلاة المغرب وبعد صلاة العصر حدث أن كانت أمي تنهاني عن النوم، لئلا يجيب لي الجنون ولم أحسم بعد خوفها بسبب ديني، أم لموروث بيئتها القبلية المحرضة على العمل في النهار والنوم في الليل وأمي كما السمن على العسل في يقينها الثابت، لا أذكر أنها تنازلت عن نهارها مريضة كانت أو وحيدة، كما لم تتنازل في هذه المسألة عن كثير من خصوصيات تعرف بها في البيت، وتصبح تصرفاتها وكلماتها الغامضة مثيرة للغضب والضحك والتندر أحيانا..؟ أكاد أفقد حساسيتي الفطرية تجاه أمي في ليلها، دخلت في فراشي على حياد تام مع كل الأشياء التي حولي، أوراقي، وكتبي، وبطلات الروايات، والبطلة المنتظرة، وزهوري ، ببغائي، ساري، عمتي وأصدقائي الكناسين، المندوب، شاعري، وظلال ظلي، وخصوصا«خسفوا» ، والولد الذي كان علي أن أحرره، أوصدت بابي على كل ماهو خارج غرفتي، لأصدر أوامري وأطفئ الضوء في لحظة واحدة، مسكتا كل الأشباح التي تختال في ذاكرتي.. الظلام يجتاح كل شيء، وصديقي الكناس المريض بجلطة في القلب قريب عمتي، يشعل مصابيح الفرح في أعماقي ويوقظ في جبيني حلماً، لست أدري كم من الزمن يكفي للمتعة به، إذ وضعني في صميم نسمة ليلية، وسرب في سمعي طيور الصبح تغني لنهار ضائع، وفتح عينه وتنهد براحة: اليوم من قدك أفرح! لك عندي بشارة تسعدك! صار فضاء الغرفة مضيئا وفي داخلي فضاء أكبر، ظننت أن قريب عمتي الذي صار يقاسمني الليل، والصبح ، والنهار، والكلام، والهواجس، يريد أن يحصي أنفاسي ولم يكن إحساسي في مكانه، فتوهمت أني صرخت به في الحلم: أنا متعب أريد أن أنام إذ قمت صليت، وفي النهار أحكي لك ماصار اليوم! قم أنا الذي أحكي! وتصورته يدلف إلى الزاوية الأخيرة من النافذة المطلة على الشارع المواجه لباب المسجد، بيده قارورة الدواء التي يصب منها صبغة للقلب، والكلام كالسحر ينساب في هدوء هذا الصباح: زرقاء يمامتك تسلم عليك! منقطعة مريضة وربما لتثق فيك أكثر، أنا أعرف أن هذا الكلام يسعدك! ويجعلك تنتظر بذات اللهفة، وما تدري أن للنسوان شغلهم! تعرف إذا أردت تضرب المرأة بالمرأة، لابد لها من رصيفة ولو في الصورة..! وبمسافة بعيدة في الذاكرة، حكت لي زرقاء اليمامة قبل أن تحتجب في فضاء كثيف الغبار، سيرة كناسة قديمة أخرى، ولم يتضح في سردها الود في تفاصيل حياة تلك الكناسة، فقدت زرقاء اليمامة حيادها في قسوة كلامها الغاضب والرافض، تريد صورة أخرى لا أظن أني أفسدتها بتأجيل أسئلتي لما تريد..؟ وتذكرت أنها ترفض الغرف في نهاية تأويلي، أنها لا تريد أن تكرر سيرة من سبقنها وتلك جدلية تقلقني بشدة، أما وقد رأيت من صدر الستارة الشفاف مسافة طويلة من النهار الضائع، إذ لم أرد أن تأخذني بشرى صديقي الكناس بشيء من الجدية، دون أن أنكر ضوء فرح تسلل إلى أعماقي، يغرني فقد أصبت من التجارب الخاسرة منها وحدها مايكفي، في بحثي المجنون المضني في حلم طويل عن بطلة نص منتظرة!، بما لم يعد يعطي مسافة فسحة تأويل جديد، وأحببت ألا أفوت الفرصة: خلينا من الكلام اللي مايسوى ثمنه، أنت على ماذا استقررت وانتهيت عليه اليوم..؟. زاد انتشائي حينما استجاب لي صديقي الكناس، مستوعبا رغبتي في الحد فقد أولى وجه إلى الشارع، وباب النافذة المفتوح، وغبت حالما في نوم إضافي آخر، تذكرت بما يشبه اليأس أني ربما رأيت، وربما سمعت في واحدة من حالات الانتظار والسهد، وربي يسعدك! صورة وصوت يأتي ببشارة لي من فضاء زرقاء اليمامة، وأمسكت بتلابيب اللحظة في الحلم، وسمعت قريب عمتي صديقي الكناس المريض بالقلب يقول لي: أبدا ما فيه جديد من يوم ماراحت لأهلها، أنا أخذتها ومعي ستة من أولادها إلى داخل الطائرة وسافرت ورتركتهم، من الصعب أن تعيش بين أولاد وبنات في أعمار مختلفة، وبدون أم...! توهمت أنه انثنى كما يفعل في كل مرة في طرف سريري، يؤذيني بالصياح والضرب في باطن قدمي لكي أنهض معه لصلاة الفجر، لكنه فاتحني هذه المرة بشيء من ظرف إذ أضاف: أحكي لك واحدة من دمدمات البنت الصغيرة، والتي لم تكن الأقرب إلي بحكم السن من أختها واحمد الله أن ليس لي غيرهما، اللعينة ليست صغيرة بالطبع كما تعرف، وليس هذا المهم بقدر ما وجدتها في ذات اللحظة، تتحدث عن كل موقف وكل لحظة بيني وبين أمها، بجرأة ولم أظنها تستوعب من قبل ماجرى بكل هذه التفاصيل، ويكون لها رأي فيما رأت وما حدثت من تفاصيل، لاشك أنها تبقى حبيسة ذاكرتها.. صمت صديقي الكناس لحظة كأنما يستجمع ذاكرته، أو ليتأكد أني معه، وحينما تيقن أني أصغي له بثبات وبذات حالات صار يألفها مني عند سماع الكلام، لم ينتظر إذ قال: من له بنات الله يعينه! بقية الحكاية معروفة! بس بحكي لك حكاية أخرى أمر وأدهى، أنت رحت بعد صلاة الصبح أمس، وأنا رحت شغلي، وقلت يمكن أنت تتأخر، وكان معي أمانة وقل هديه ثمينة من كناس قديم إلى آخر، وجدت وقتاً مناسباً وصدفة قادتني إليه، والله الرجل كان من قديم من نفس الطينة كناس شوارع، ليس هذا المهم فله ضوء عجيب في عينيه، مرح فطن كريم وأخذتنا السوالف، من زمن بعيد لم نلتق، باعدت بيننا الشوارع أو ما تسميه أنت المسافات إذا شئت.. ضحك صديقي الكناس مريض القلب إذ يضيف، كنا معا في الشوارع التي يلد منها كل يوم العشرات، ونعطي كل شارع رقماً والكناس يحمل مسمى رقم ذات الشارع، لم أحلم يوما إلى هذه اللحظة أني أحمل رسائل بين الأصدقاء الكناسين، تحمل طهارة وروح الأشياء بالكلام والرائحة التي تتخلق بها، الله وحده يعلم نيتي في تلك اللحظة فعلا معك حق، حينما تصف تلك الأشياء عبر مسافات، غابت عن بالي في تلك اللحظة المسميات التي تغيب في المسافات، وبعفوية مازحة وجدته يسألني أسئلة غريبة، جعلتني أضحك ساخرا منه وأقول له، خذني أنا والعيال أشحذ بنا إذا كان ذلك ممكنا، ناس تتغير جلودها بسرعة ويظل العفن في كل مكان، والحكاية ان الكناس العجيب مثلنا ومن طينتنا، وربما لا تعرف هذا أنت أيضا لصغر سنك! كناس يشبهني به صديقي الكناس الذي قلت له خذني أنا والعيال أشحذ بهم! ما أظن أنك تعرفه، هنا الكناس كان قد بدأ رحلة الكنس من زمن بعيد، أسألني عنه أنا الذي عاشرته سنوات، وتعرفت إليه في كثير من الشوارع والدروب، والمسافات القريبة والبعيدة، رفض في مرة تسميته الكناس رقم ثلاثة وثلاثين، وفسرت الأمر في ذلك الزمن البعيد، إنما هو رفض على اعتبار أن الرقم وهبه له كناس أقل منه قيمة، ولم أظن للحظة أنه يرفض الرقم كليا ويرفض مهنة الكناسين، بل ويبدي كثيرا من أسئلة التندر والتضليل والغضب نحوها، كان نحيلا وطويلا له ساقان يمدهما في عرض الشارع، ويفرك إحدى ركبتيه ربما مصابة في حادث، في واحدة من رحلاته الطويلة في الشوارع طيلة أيام الأسبوع، يطوف شوارع المدينة من شمالها إلى جنوبها، ومن الغرب إلى الشرق يبحث عن شيء ضائع، يدخل إلى الأمكنة التي تغريه في الشوارع، ويقف بين الناس الذين يتبايعون في الأسواق، وبالذات سوق المدينة في الناحية الجنوبية الذي تباع فيه المقتنيات المستخدمة، وكل شيء من الزبالة إلى التحف الثمينة واللوحات، تجده في أيام الأسبوع صامتا بينهم، وربما متورطا في بيعة زبالة على رأسه، لا يجد مناصاً من شحنها وتجميعها في بيت كان له بيت وزوجة وأولاد، قبل أن يتدخل أولاد الحرام بينهم ويتحول البيت إلى سوق، وما تمتلئ به الغرف من الأخشاب واللوحات ومخلفات الأسواق الرديئة ، وأصدقاء يصفونه بفوضى وسخرية «كافكا»، كلما ضاقت بهم الغرف دون تذمر يذكر منه، الكناس الذي رفض من قبل تصنيف الكناسين له كناس ماهر تدمر من الخارج ويصر بتشبث أن يظل ثابتا، مرة تجرأت وسألته بعد ما عرفت أنه كان شيخ الكناسين، في مدينتي الأولى التي تشربت فيها المهنة، إذ كنت ماأزال في ذلك الزمن البعيد في سنواتي العشر الأولى، وأحببت مواصلة مسافات في داخل المسافات، وجدته إنساناً بسيطاً وكناساً يحب الناس بعزة نفس، نباتي متوتر ظللت أتفادى الصدام به فترة، وأذكر أسماء الناس في قلب غبار شوارع المدن التي طاف بها، أستفز صمته مرات وضحكه مرات أخرى في رحلاتنا بشوارع المدينة، ولن أنسى شغفه بقصة ذلك الكناس الأسود، الذي جاء إلى مديتنا هذه وعاش بيننا فترة من الزمن، كناسا عفيف اللسان واليد قبل أن يفقد عقله، ويظل يدور في شوارع المدينة متحدثا مع نفسه، لايرد على أسئلة أحد ولا يقبل عطفاً من أحد، بثوب أسود وقدمين طويلتين حافيتين وشعر منفوش، في كل فصول السنة حرها وبردها لم تتغير عادة ذلك الكناس ولم يتغير مظهره، لحية وخطها الشيب وسائل أبيض وذباب ينهش وجهه، ويصيح بصوت عال« طلقها.. طلقها»، وظلت حالته وسبب التحولات العجيبة سراً عجيباً، ومحل تفسيرات عجيبة لم يكن تفسير شيخ الكناسين في مدينتي الصغيرة، وصديقي بعد زمن وصديق الكناس الأسود الذي جن، أغرب عشرات تلك القصص التي تتحدث وتؤول حاله، وقيل أنه عاد إلى مدينته التي فيها أهله، وأجبر على طلاق زوجته التي وجدها في ذمة رجل غيره، وقيل حكايات أخرى إنما أنا طلعت بك من كناس إلى كناس آخر، وهذا ليس المهم! ، المهم أنها ما تضيق حتى تفرج. التفت قريب عمتي وصديقي الكناس المريض بالقلب، ينهرني متسائلا: أنت نائم ! الله مازلت إلى هذه الساعة نائم. قم! بصفاء وجهه الذي تأكدت أنه جاء من النوم للتو، بعد أن فرغت من حلم طويل، ليأخذني إلى فضاء يوم طويل ، يبدأ بصلاة الصبح قلت له مبتسما: ياالله صباح خير، وعلى فكرة حكاية القلم اللي من أربعين عاما تكتب ذاتها، صبي لم يجد مكانا يأوي إليه من خوف الشوارع وذلها غير مقهى، به كناس قديم جدا« سهاري» في آخر الليل في تلك القهوة، توسم في وجهك الذي كان ينبئ بخير، وأعطاك هذا القلم أمانة!، هذه كل الحكاية، وهذا كل ما في الأمر..! صاح صديقي الكناس محتدا: لا.. لا أنا لا أريد تهميش الحكاية إلى هذا الحد! الرجل الله يرحمه لم يعرف قيمة القلم بمسافات في تلك الأيام، وفي ذات الوقت لم يخف رغبة في مقابل مادي، لو لم يعرف أني لا أملك شيئاً في ذلك الزمن، كما لا أملك شيئا بمسافات هذا الزمن أهديك، غير هذا القلم والقلب المتعب، ثم أنه أحب أن يهدي إلي شيء له قيمة، بس قلي أنت كيف يصير معك! ضحكت وقلت: مثلك متعب! وشعرت به يستوعب بشكل كاف. وشعرت أن الزمن يتسرب كوعد يفضي إلى لا شيء، في المرات التي أدع فيها قريب عمتي وصديقي الكناس، يطري الليل وفي مرات يحضرنا شاعري، وكناس آخر من الكناسين أصدقاء العمر نفتح صفحات الأخبار الكاذبة، والنكات التي تختصر المسافات في عمر المسافات وصاحبي سيدها، وصرت أتجاوز فواصل العمر بعدما بنينا ألفة ومحبة بحرية، إذ أفتش تلك الصفحات عثرت على امرأتين الأولى سمراء بدينة، من سلالة الكناسين الأوائل الذين أضاؤوا قلب قريب عمتي وصديقي الكناس، والثانية طويلة ذات أنف عال دون أن يخلو من سذاجة، صحت به بدهشة: هل من الضروري أن تصبح كالتاجر المفلس، يفتح دفاتره بعد كل خسارة.؟ الكلام للمتعة والفهم.. بس أنت، أنا لم يعد لي في مستقبلي مثل مامضى لي، والزمن لا يعود ولا ينتظر إلى أن يصح من يريد أن يصح، أسوأ مافي الحياة الخيانة والغدر وأطفال بين زوجين تشب بينهما النار، الحريق يمسنا بشدة نحن الكناسين إذا شبت النار..! رد بحرارة لم ينجح ليبقى متماسكا، إذ سرح بخياله في حالة تكاد تمسني، ولم ينجح ليخفي حالات خجل وندم وأسى وحب وعاطفة ممزوجة مع بعض، تجعل شاعري يصيح بنشوة« يا الله» إذ حسها ممزوجة معا في لحظة واحدة، على وجه صديقي الكناس مريض القلب وقريب عمتي في اللقاءات الأخيرة التي صار يحضرها معنا، وكأنما أردت أن أطفئ النار المشتعلة في قلب صديقي الكناس المريض بالقلب وقريب عمتي، قلت ضاحكا مستفزا تداعيه: الزمن لا يتوقف هذا صحيح، بس يضع بصمته كمحطات، والحياة في هذه المحطات تبقى بصمة جميلة إذا الله أكرمك بفتاة كناسة جميلة..! البنت الصغيرة يوم أمها سافرت وتركتنا، مرة مازحا سمعتني أقول لها أريد أتزوج!، وردت علي بكل جد، قائلة إذا ما تطيق تعيش أنت وأمي مع بعض، إذا لم يعد في الإمكان الحياة معا لا يحق لك أن تتزوج أبدا، لأن هذا قدرك..! صمت للحظة وأضاف: وهذا فعلا قدري، الكناسات الجميلات اللواتي في بالك كن كناسات جميلات بمسافات ذلك الزمن، هذا فضلا عن المتغيرات والقلوب المتعبة التي لم يعد فيها مجال لتجارب جديدة، المهم أنت وش قصدك..؟ وبلغت ضحكة صديقي الكناس وقريب عمتي مدى بعيداً، يتوه في سماوات من النشوة ومسافات بعيدة، يقطر العمر فيها من دم قلب متعب، يداوي جراح الآخرين كما داوى قلبه بصبغة، ويضرب الإبرة بيده ثلاث مرات في اليوم رأيت في الحلم إحدى الكناستين اللتين أضاءتا المسافات في قلب صديقي الكناس قريب عمتي أمس، الكناسة السمراء البدينة في أول الحلم بسطت ظلها فجأة! وكنت في غاية اليأس فظننتها بطلة نص جديدة منتظرة، وبسرعة أدركت بعد ما تأملت هيئة أنثى في الأربعين، ولتظل في ذات الحالة والرائحة، قلت لها ضاحكا: أنت طبعا اللؤلؤة..؟ استشففت أنها لا تدري ماذا تفعل وهي تقتحم فضاء غرفتي، ولم تخف علي حيرة وضعفاً شديداً، يبدو على ملامح وجه لا يخلو من بعض فرح وشيء من بقايا جرأة، كنس الزمن كثيراً من جمالها اللذيذ، وبقيت على خدود سمراء تشبه الرمان بعض بصماته، ولتخرج من حالة الضياع والحيرة واللهفة البادية، كأنها تعتذر عن مجيئها في هذا الزمن: أنا أم لبنتين الكبيرة في الجامعة.. وصدقني سميت ابني باسم صاحبك مريض القلب، أطمئن أنا لم أجيء لكي أصبح واحدة من بطلاتك المنتظرات، إنما وجدت فضاء له رائحة تجذبني وتتيح لي البوح الذي ربما، يجعلني أبرأ مما بي.. ولم تجعلني هذه الكناسة أتعاطف معها، بعد أن بلغني صديقي الكناس في مايشبه الحزن أنها تصرف على بيت كامل، هجره رجل فجائي من حالات التحولات التي حدثت في مدينتنا هذه، ظهر واختفى فجأة! بالمال وأودع في عنق الكناسة المسكينة السمراء العيال، مريضة تعمل في مدخل أحد مستشفيات المدينة كناسة لتجد العلاج، وتجمع قوتها وقوت العيال.. وفرحت أن لا أنا، ولا الكناس المريض بالقلب قد أبقينا مكانا للكناسة السمراء، إذ اختفت من غرفتي في ثوان، لم أدر عنها وفي ظروف غامضة.. وكانت كناسة أخرى طويلة بيضاء مبتسمة ذات صوت به بحة، في ذات العمر الذي خرجت به في الحلم قبلها الكناسة السمراء البدينة، ولم يبق الزمن فيها شيئا ذا بال، حاول صديقي الكناس المريض بالقلب يجمل لي بظرف، سلالة هذه الكناسة الطويلة التي كأني، لمحت مسدسا في حقيبتها الرصاصية، ويضفي على أصلهم صفات مميزة، بعدما قلت له بنفاد صبر: ثقيلة دم وما تصلح لك! يصير صديقي الكناس المريض بالقلب، كلما جاء إلى غرفتي قبل كل صلاة فجر ، ليذكرني أن المسألة قسمة ونصيب، ومضحك التعب وتتابع ما أصابه من نهار أمس إلى هذه اللحظة، فبيت جارنا المرحوم تخيم على بيته شجرة عالية وطويلة وكثيفة فروعها، وفي شدة حر هذا الصيف الملتهب كان الظل مغريا، أغرى صديقي الكناس وقريب عمتي التي تصر على تعويضه بامرأة من ذات الفصيلة، فركن سيارته في الظل الذي لا ينافسه فيه أحد، بجوار بيت جارنا الميت الذي لم يمت أخوان زوجته الأرملة، سدوا على سيارة صديقي الكناس مريض القلب وقريب عمتي، وللخروج لم يبقوا له منفذا ولم يرد أكثر من هذا.. صدفة فجائية! وتغير طقس مدينتنا، في الليل هبت رياح شديدة صاحبها برق ومطر صيف يغسل شوارع الكناسين بأوراق كثيرة، كسرت الرياح جذع شجرة عالياً كبيراً ومال إلى الأرض بقوة، وهشم سيارة بيضاء تبحث عن الظل الذي لم تجده في جدار بيتنا، وأصر القول باستفزاز ودون ثقة بأن لي مواصفاتي وله مواصفاته، ليست المسألة إلى أقصى اليمين ولسنا بحمد الله من أهل اليسار، ما عليك من الذين أفلسوا والذين يتفلسفون والذين يبحثون عن الظل، أنظر أنت إلى أن الدين الحنيف كيف يدعوك أولا، إلى أن تنظر إلى موقع سجودك قبل أن تكبر وتقيم الصلاة، الحياة صلاة طويلة لابد أن تنظر جيدا إلى موقع سجودك في كل لحظة ، واليأس الذي يرتع في خيالي بلغ بي مداه، والكلام يتطاول بين غبار كثيف.