أشرنا في مقال سابق، إلى أن أعشى همدان دفعه الملل من زوجته وعشيرة عمره، إلى أن يطلقها، ويتزوج من أخرى همدانية أيضا اسمها )جَزْلة(، لم يرزق معها الراحة، ولم يظفر منها بالانسجام، فقال فيها القصيدة التالية، من بحر )الرَّمَل(: حيِّيا )جزلة( مني بالسلام درةَ البحر، ومصباح الظلام لاتصدِّي بعدودٍّ ثابتٍ واسمعي يا أمَّ عيسى من كلامي: إن تدومي لي فوصْلي دائم أو تهمّي لي بهجر أو صِرام أو تكوني مثل برق خُلّب خادع يلمع في عُرض الغمام أو كتخييل سراب معرضٍ بفلاة،أو طروق في المنام فاعلمي إن كنتِ لمَّا تعلمي ومتى ما تفعلي ذاك تلامي فهو يعدها بدوام الوصل إن دام وصلها، ويضعها موضع اللوم إن كانت مخادعة، كالبرق الخلّب والسراب اللامع بالصحراء، والطيف الزائر، ثم هو يذكِّرها الوعود التي وعدته بها، والتي لا يليق بها خفرها ولا تجاهلها أو تناسيها، فيقول: بعدَ ما كان الذي كان فلا تُتبعي الإحسان إلا بالتمام لا تَناسي كلَّ ما أعطيتني من عهود ومواثيق عظام واذكري الوعد الذي واعدتني ليلةَ النصف من الشهر الحرام فلئن بدَّلت أو خِسْتِ بنا وتجرأت على أمٍّ صَمَام لا تبالين إذن من بعدها أبدا ترك صلاةٍ أو صيام )خاس فلان العهدَ، خيْساً، وخيساناً: نقضه وخانه، ويقال أيضا: خاس بالعهد، وفيه، أي أعطاه أنقص مما وعده به. الصَّمام: علمٌ على الغدر والخيانة، والداهية الشديدة الصَّماء(، ثم يلتمس منها أن تراجع وصلها له، وأن لا تستمر في طِماحها أي كرهها له(، ويطالبها بأن تذكر فيه عيبا واحداً يستحق أن تكرهه لأجله، محترساً لنفسه بأنه خال من العيوب، ومن شأن الكاره أن يرى عيباً ما ليس بعيب، ورغم ذلك فهو مستعد للتخلي عما لا تريده منه: راجعي الوصل، ورُدّي نظرةً لا تَلجِّي في طماح وأثام وإذا أنكرت مني شيمةً ولقد ينكرُ ماليس بذام فاذكريها لي أزُل عنها، ولا تُسْفحي عينيك بالدمع السِّجام وأرى حبلك رثاً خَلَقاً وحبالي جدداً، غيرَ رمام ثم ينتقل إلى ضمير الغائب في سبعة أبيات هي خاتمة هذه القصيدة بعد أن اعتمد على الخطاب في الأبيات السابقة المكونة من خمسة عشر بيتا، وهذا يعني أن نسبة غيابها تمثل الثلث، مما يدل على شدة حضورها في ذهنه، وعظم إحساسه بفقدها، وهو يصرّح بسبب إعراضها عنه، وهو الشيب وكبر السّن، وضعف القوى، وذلك أمر يتكرر كثيرا في علاقة المرأة بالرجل في الحياة الاجتماعية: عجِبتْ )جزلةُ( مني أن رأت لِمّتي حُفَّت بشيب كالثغام ورأت جسمي علاه كَبْرةٌ وصروفَ الدهر قد أبلتْ عظامي وصَلِيتُ الحرب حتى تركتْ جسدي نضواً كأشلاء اللجام هكذا وصف نفسه بكل صدق، ثم وصف زوجته بالفتوة وبياض اللون، وطول الشعر، وجمال الضحكة فهي كاملة بأوصافها، مدلّة بشبابها: وهي بيضاءُ على منكبها قَطَطٌ جَعْدٌ، وميّالُ سُخَام وإذا تضحك تبدي حَبباً كرُضاب المسك في الراح المُدام كملتْ ما بين قرنٍ، فإلى موضع الخَلْخال منها، والخِدام فأراها اليومَ لي قد أحدثت خُلُقاً ليس على العهد القُدام )الثَّغام: نبت جبلي إذا يبس أبيضَّ، فيشبَّه به الشيب عادة: أشلاء اللجام: حدائده بلا سيوره القَطَط: الشعر القصير، السُّخام: الشعر الليّن الحسن. الخِدام: الخلاخيل(. وكنا نتوقع أن يعقد مقارنة بينها وبين أم الجلال، زوجته الأولى، تلك الزوجة الوفية التي حاولت أن تفي له وتتمسك به، إلى اللحظات الأخيرة من علاقتها الزوجية به، ولكنه لم يفعل، وكأن صدمته بزوجته الثانية لم تكن كافية لترده إلى التفكير في أيام حياته الأولى، ونحن لا نستطيع أن نلوم زوجته الثانية أو نطالبها بقبول الحياة معه برغم الفوارق القائمة بينهما، وإنما كنا نود أن لو صارحته بموقفها قبل الارتباط بها، وبخاصة أن الروايات تؤكد أنها زيّنت له تلك العلاقة، ولم تطلب منه سوى التخلي عن زوجته الأولى، وقد فعل وكما تشابهت القصيدتان في الارتكاز على ضميري الخطاب والغيبة فنياً، فإنهما تشابهتا في حرف الروي وسبْقه بحرف الألف، إذ اللام والميم متشابهتان، والألف في مثل هذا ليست روياً، ولكن يجب التزامها مع الروي، يضاف الى أن حرف الروي جاء مكسوراً في القصيدتين، ولعل ذلك نابع من إحساسه بتشابه موقفه من الزوجتين، أو بتشابه النتائج.