المقعد الوثير بجوار المكتب المستطيل الصَّقيل، يقف شامخاً... بجلده الصَّقيل، هذا المقعد، يشمخ في شيء ممَّا بصاحبه سرى إليه... بعجلاته الفارهة، المستديرة في أناقة، يزيِّنها سوار من جلد فاخر... جانباه المرتفعان في علو يد صاحبه، يشمخان كحدٍّ فاصلٍ بين المدى الأيمن، والمدى الأيسر لمن يجلس إليه... هذا المكتب بخشبه الفاخر، وألوانه السَّاكنة العميقة، ووجهه الصَّقيل اللاَّمع، وزجاجه البلوري، وتطاوله على المساحة أمام من يرتقي المقعد أمامه، وامتداده إلى الجانب الأيمن بأدراجه، ذات الأزرَّة والمفاتيح، وعمقها الاحتوائي ذي الفخامة، والعنفوان...، كأنما ينطقان، هذان المكتب والمقعد عن صاحبهما... ورنين الهاتف المتحفِّز الذي يقبع على جانب من الركن الشمالي للمكتب...، يلتقط ما يخرج، ويجتذب ما يأتي... ينتظرون في تأهُّب مَقْدم صاحبهم... تُرى: كيف هو مزاجه اليوم؟... هل سوف يتصفَّح كومة الأوراق التي وضعها في هدوء، ونظام، مديرُ إدارة هذا الرئيس؟...، أم سوف يرتفع صوته ككلّ يومٍ يَقْدم فيه مبكراً، أو يذهب عنه متأخراً، مطالباً بمن يأتي لمساعدته، في إطفاء الأنوار التي تجعل من حجرة مكتبه كتلة ضوء ونور، ويزيدها ذلك حياة وحركة...، أم سوف يمتزج ببعض من يجلس في الجوار ينتظرون لحظات قادمة، يفرغ فيها كلُّ الذين كانوا هنا ثمَّ انتهوا... وتبقى لواحد... أو آخر لحظات خاصة...، يرقب فيها ساعته في معصمه من في الخارج خلف الباب ينتظر، بلهفة صَبْر ينتظر، كي يحظى باللقاء من بعدهم... هذا المقعد... كيف يتحدث إلى المكتب، إلى الهاتف، إلى الأوراق...؟! بل إلى النَّياشين، والدروع، وشهادات البراءة، التي تتزيّا بها الطاولات، والأرفف...، بل الجدران الأربعة لحجرة هذا الرئيس...! به وبكلِّ ما فيه؟ مَنْ المتسيِّد في هذه الحجرة؟! الرئيسُ ذاته؟ أم مقعدُه؟! أم الذي يجلس في الخارج يسمح لمن يشاء بالولوج، ويرفض من يشاء؟! يُظْهر ما يريد، ويُخفْي ما لا يريد؟ يصمت متى يشاء عمَّا لا يريد، وينطق متى يشاء عمّا يريد؟ من الذي يُشكِّل في رأس الرئيسِ أفكارَه، ويوجِّه سلوكَه؟ المقعدُ...؟! أم صفةُ المقعدِ؟! أم رأسُ الرئيسِ؟! ما الذي يُوحي له بما يقتضب من كلمات، يُذَيِّل بها الأوراق التي أمامه؟! صوتٌ مِنْ تحته؟! أم صوتٌ مِنْ جَوْفه؟! أم صوتٌ مِنْ خلف الباب؟! أم صوتٌ مِنْ أسلاك الهاتف؟! أم صدى ما تتزيّا به حجرةُ مكتبه؟! وماذا عن تلك الستائر المخملية التي تتجمَّل بها النوافذ؟!... بل ماذا عن نسمة الهواء الباردة التي يُشيعها سقف الحجرة...، تُسرع إليه من خلال تعرجاتٍ صلداء، تتمدّد فوق رأسه؟! تتستَّر برخامٍ مزخرفٍ يُخبِّىء ما خلفه...، كما يُخبِّىء الوجهُ الجميلُ ما فيه من البثور، والتجاعيد، بشيء من الأصباغ؟! هل هذا الرئيس يدري أنّه مزخرفٌ كعروسٍ في ليلة زفافها، بُذل كلُّ ما في الوسع، كي تبدو في أبهى وأجمل ما تكون؟! ثمَّ كيف هي الأصوات من حوله؟! هل يستطيع أن يُميِّز ذلك الصوت القادم من مقعده، عن ذلك الذي يأتيه من الخارج...، أو من رأسه، أو من خلف سماعة الهاتف...، أو حتّى من فوق مُعَلَّقٍ في جدار مكتبه؟!، بل حتى من كتلة خيوطٍ مُذهّبة، تطلُّ عليه من جانب عباءته الصَّقيلة، المتدلية على مشجبٍ فاخرٍ عن يمينه، أو عن يساره؟! هذا المقعد الأساس... الذي يلتصق به الرئيس طيلة وجوده في موقعه هذا... ترى ماذا يقول؟! كيف حاله؟ وكيف حال الرئيس؟! ربما يتحدث إلينا بشيء من الوضوح... وبصوتٍ يمكننا أن نميُّزه...، من بين غوغائية الأصوات...، كي يرى الرئيس... كي يسمع...، كي تكون أمامه مرآة مقعده الخفية...،