نحن أهل المديح ونكيله كما نشتهي، وكل المكاييل تصبح مشاعا أمامنا حين نبدأ المدح في البلاط، وفي العراء، وفي الهواء.. ونحن أهل الغزل، ننثره في كل العناوين بلا استثناء ويصبح كل الجمال وغيره بساطا نطرز في صفحته مشاعرنا وهو أنا وكل مالا ينطفئ فينا. ونحن أصحاب الوصف، نفصّله كما نحب ويحلو لخيالنا، فيأتي بمقاييس الطبيعة وموجوداتها، بل إنه يأتي في كثير من الأحيان فضفاضا يتسع لطبيعتنا وطبائعنا المحلقة أبدا. ونحن أصحاب الاعتذار، نأتيه على حجم أخطائنا، بحيث تصبح المفردات مطية تنقلنا أجسادا ومعاني في زوايا أخطائنا التي نخبئها عادة في خلجان لا تصلها الأمواج، ولا تكتشف برودتها أشعة الشمس. ونحن ملوك الفخر، وفرسانه بلا منازع، كلمة أو جملة أو بيت من الشعر تكفي لأن ترفع شأنا وتخفض آخر، بل إننا أول من غزا النجوم وسكن الفضاء بمعية من فخرنا بهم على مر العصور والدهور. نعم نحن كل أولئك، ولكننا لا نتميز بواحد مما سبق ولا بما سبق كله!.. ذلك لأننا مبدعو فن الرثاء، وذارفو دموع التماسيح والتماثيل. نحن البكاؤون، ولكن دموعنا ليست مالحة كما يفترض أن تكون الدموع، ذلك لأننا نبكي واجبا تفرضه علينا المجاملة، حتى أن الحال وصل بنا الى اللابكاء.. نجلس في عزائنا واجمين نسرح انظارنا في كل الوجوه أمامنا نتبين فيها وجوها تدعي الحزن والعبءالكبير، وأجفانا وشفاها ملونة بخلطات «كرستيان ديور، وماك، وشيسيدو.. الخ». )2( وهمسا ولمزا وغمزا وادعاء سافرا بالحزن والقهر والتأثر اللانهائي الساكن لوحات بدون أطر أو ألوان. كالح حزننا كألوان المساء حين يخيم على أنثى لا تقاسم فيه أحدا حديثا أو عشاء أو كركرة صغار يحلو لهم العبث قبل أن يسرقهم النوم من أحضانها المنهكة باهت حزننا كمساء بلا جريدة، وكأخبار تصنعها ألف مرة في الليلة الواحدة. وفي كل مرة تشرب تناقضا وتقيء ألما على ما لم تسمع من حقيقة قد تشفيك ولو ليلة واحدة. حامض هذا المساء الذي سوف يخلو من «مسائية» في العشرين، قصفتها أيد وسواعد دارت عليها فاحتضنتها بقوة.. فقتلتها حبا، وظلت السواعد ملفوفة على الفراغ. «المسائية» أنثى.. فلماذا نستغرب أن تختفي الأنثى أكثر فأكثر. لعلها لم توافق المساء ولا الساهرين فيه، فهجرتهم هي، وهم يزعمون أنهم طردوها من بين محظياتهم وماهم بفاعلين.. «المسائية» تبقى لأن كثيرا منا رسم ذاته في صدر مراياها ورأوا أنفسهم قضية من قضاياها، كأنهم ولدوا بمولدها وهاجروا طوال فصول هجرتها وأحسوا بغربتهم في ثنايا غربتها وحين دخلت مرحلة النزاع حسوا بقرب موتهم مثلها.. إن بكينا «المسائية» فإننا نبكي أنفسنا فيها، ولسنا بحاجة الى من يبكي معنا عليها، لأننا أشباهها كثر والحمد لله. نحن نبكي بدموع مالحة، تجرح مآقينا، وتحفر في خدودنا وهي منسابة الى المجهول، لسنا بحاجة الى دموع حلوة تتبخر قبل أن تغادر المآقي. هذه الدموع هي التي نراها.. ولكنها لا ترانا لأنها لا تعرفنا.. نحن.. و«المسائية».. وتاليتها؟!!