يعتبر وجوده.. وانجازه.. شاهدا على الممارسة الثقافية في بعدها المعرفي والحضاري حيث عبر عن فحوى هذا الوجود، بانجازات نقدية قدمها.. وأخرى ما زالت محل متابعته وقراءته. وبشهادة المثقفين السعوديين فقد كانت انجازاته قراءة عميقة لمرحلة مهمة من تاريخنا وواقعنا الثقافي قدمها صادقا في تحديد سماتها .. واستنطاق دلالاتها جادا وواعيا في اعطائها ما تستحقه من عناية ودرس. عن محاور اهتمامه النقدي وعن قضايا اخرى كان لنا معه هذا الحوار: * عايشت التجربة السردية في المملكة قصة ورواية متابعة ونقدا وتحليلا .. فكيف وجدتها؟ هذا سؤال يحتاج الاجابة عنه الى مساحة واسعة، ولكن دعني اقول بداية ان تدفق العطاء السردي في الفترة الاخيرة لم يسمح لي بالاطلاع على النحو الذي ذكرت، ولكنني لاحظت امرين: الأول: ثراء الانتاج السردي وغزارته في «القصة القصيرة» على نحو خاص، وخصوصا في فترة السبعينيات الميلادية وبعض الثمانينيات حيث تبلورت الاتجاهات والتيارات في تلك الحقبة استجابة لمرحلة تاريخية عرفت بأنها مرحلة تحول على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وكما هو معروف فإن القصة القصيرة فن الأزمة كما يقول اوكونور احد أهم منظريها، والازمة هنا تتمثل في التاريخ الكبير لو تأثر النمو والتحول عبر الطفرة التي نقلت المجتمع نقلة واسعة وأثرت في منظومة القيم التي تحكم سلوك الافراد من الجماعات دون تمهيد، فلم تمهل تلك المسيرة المتعاظمة الخمائر المتفاعلة في باطن الحياة الاجتماعية لكي تأخذ مداها، وعلى الرغم من ان النماذج الابداعية في مثل هذه الاحوال ولدى كل الشعوب تظل محدودة كماً فإن التراكم الذي صنعه الاقبال الشديد على هذا الفن لدى شريحة واسعة من المثقفين افرز حصيلة ابداعية لا يستهان بها في تلك الفترة لخصت الانجاز التقني بشكل أو بآخر المنبثق عن التجربة العربية وإذا شئنا أن نكون أكثر جرأة، والتجربة العالمية على نحو ما عبر الاطلاع النهم والمواكبة المنفتحة وانا ازعم ان تجربة القصة القصيرة اقتنصت ايقاع الحوار الذي كان يمور داخل المجتمع ورصدت شيئا من تجلياته، وانها تخفي خلف غنائيتها الظاهرة المفترض حيث يرى الدكتور شكري عياد )رحمه الله( فيها )القصة القصيرة( شيئا من غنائية الشعر فالحوارية قرين الغنائية اذا كانت تعبيرا عن موقف مأزوم ولهذا ارى ان ظاهرة التداخل النصوصي مظهر من مظاهر هذي الحوارية، وقد شكلت هذه الظاهرة سمة واضحة في نماذج ابداعية متفوقة واذا كان ثمة من لا يرى هذا الرأي، فإن التعددية التي سادت مناهج الكتابة واساليبها تعبر عن هذه الظاهرة. اما الرواية، فقد كادت ان تغيب في المرحلة التي اشرت عليها وسط زخم الابداع السردي في القصة القصيرة ولكنها كانت ذات انطلاقة متميزة في الفترة التي تلتها واللافت فيها انها بدت كضرورة افرزها السياق التاريخي للتطور فلم تقتصر على كتاب السرد بل انضم الى كتابها طائفة من الشعراء والاكاديميين والمفكرين وبغض النظر عن تفاوت مستوى الاداء فإن الملاحظ انها مثلت ضرورة على نحو ما فالرواية الاوتوبيوجرافية، وان بدت متعاملة مع التجربة الذاتية فإنها تتغلغل في جسد التجول وترصد محاربة الخفية وتغوص الى مناطق مجهولة منه آن الاوان لاستكشافها لأنها مرتبطة بديناميات وآليات الانعطاف التاريخي في سيرورته وصيرورته، ان الذات تقوم بدور الشاهد وان بدت غير محايدة انتقائية لأن الفن رؤية في نهاية المطاف، والرواية بالذات موكلة بافتراع المكنون في طيات التاريخ فالروايات التي تبدو ملاحم سيرية لدى النظرة العجلى يستكن في داخلها زخم درامي حواري هائل، ولابد من ان اشير الى ان ثمة خصوصية توشي رؤى الروائيين نابعة من فرادة التجربة وعمق الابحار في نسغها فروايات القصيبي والحمد والدميني والشويخات والعالم ومشري ورواية الناصر الاخيرة والجاسم وعبده خال والدكتور العريني وغيرهم انما هي اقرب الى الوثائق الجمالية التي تفيض برؤى تؤصل وتستشرف ونحن على موعد مع فيض آخر من هذه الأعمال لحسين علي حسين ومحمد علوان وجار الله الحميد وغيرهم ممن لم تخرج سردياتهم الروائية الى النور. وان مشقة الحرية والعصفورية واطياف الازقة المهجورة والغيمة الرصاصية وصالحة وسيدي وحدانه وطريق الجرير وغيرها ليست نسجا على منوال ثلاثية نجيب محفوظ ولا ثلاثية احمد حسين ولا رباعية فتحي غانم او رباعية عبد المنعم الصاوي وليست هي حي سهيل ادريس اللاتيني او رجال غسان في الشمس او عودة الروح للحكيم .. الخ وانما هي جميعا في كل نص من نصوصها تحمل خصوصية مجتمعها ومنتجها ورؤاه للتحول. وهذه الموجة من النصوص الروائية التي جاءت في عقد التسعينيات بحاجة الى دراسة وتحليل لتكشف عن طاقاتها السردية والرؤيوية وان ما بذله محمد عباس ود. عالي القرشي وغيرهما من جهد في دراسة هذه الاعمال يفتح الباب امام مزيد من الدرس والتحليل وموضعية هذه الاعمال في سباتها المحلي والعربي. اننا امام اعمال روائية نوعية تضيء مرحلة جديدة من التاريخ الاجتماعي والثقافي في المملكة. * هل واكب هذه التجربة.. جهد نظري ونقدي يحلل نماذجها ويرقى الى امثلتها المميزة من وجهة نظرك؟ ليس بعد فلابد ان يمضي مزيد من الوقت لكي تنال الاهتمام الكافي خصوصا روايات العقد الأخير اما المراحل السابقة فنماذجها الابداعية المتميزة ليست بالكثرة التي تند عنها الدراسات التي دارت حولها وقد نالت خطها من الاهتمام عبر الدراسات الاكاديمية في الجامعات والبحوث وما الى ذلك، وما زالت هناك اطروحات جامعية تتناولها والامل معقود بنواصي الباحثين الجدد من طلبة الدراسات العليا الذين ينقبون عن موضوعات لأطروحاتهم. * من خلال متابعتك لمسار التجربة الروائية المعاصرة في المملكة هل ترى انها تماست مع افق الرواية العربية وكيف تنظر اليها؟ لقد سبق ان اشرت الى انها ذات خصوصية ولكنها بالتأكيد لم تكن بمعزل عن افق الرواية العربية من الناحيتين التقنية والموضوعية. فرواية الترجمة الذاتية خصوصا لدى الدكتور القصيبي والدكتور الحمد وعلي الدميني قد تماست مع الرواية السيرية لدى الحكيم ونجيب محفوظ بل انها في رواية الدميني تجاوزتها الى مسار تجريبي جديد يخترق السياق السردي التقليدي المألوف في تلك الرواية ولا ادري لماذا لم تنل ما تستحقه هذه الرواية من الدرس؟! فهي ذات آفاق جمالية واسعة، اما الرواية ذات الآفاق الاستشرافية كالعصفورية والموت يمر من هنا وسيدي وحدانه واعمال مشري فقد رسخت في اعتقادي منحى غير مألوف في السردية التقليدية وتعانقت مع الجهود السردية المتجاوزة لدى الكتاب الروائيين العرب. * التجربة الشعرية في المملكة هل حققت حضورا رؤيويا يمايزها عن التجارب الشعرية العربية؟ من الصعب جدا الاجابة على هذا السؤال، اذ لابد من دراسة هذه التجربة في اطارها العربي ولكن ما اود ان اؤكد عليه وقد درست جوانب من هذه التجربة لدى عدد من رموزها الابداعية يتمثل في وجود حضور نوعي من خلال قسمات خاصة ترتبط بالمكان والزمان والثقافة، وهي ليست مسائل ظاهرية يمكن الحديث عنها عبر المعالجات الوصفية الافقية المتمثلة في البحر والصحراء وما الى ذلك ولكن من خلال الترنح الجمالي وتوظيف هذه الملامح البيئية والاجتماعية وعبر التأصيل الثقافي لها في ارتباطها بحركة الحياة وتفاصيلها لا يمكن اغفال نماذج ابداعية متميزة تحمل هذا العمق الثقافي لدى احمد الصالح وغيره في توظيفهم واسطرتهم لظاهرة الصعلكة وتعميقها رؤيويا وفي ترسخهم جماليا وانسانيا ورؤيويا في التناص القرآني الذي يتجاوز الإمتياح من الاعجاز اللغوي الى العمق الرؤيوي والارتباط الحميم بالتراث الشعري والتدريجي واعذرني إذ لم اعرض امثلة وان كانت هذه الامثلة تتزاحم في ذهني ويكفي ان اشير الى حسين العروي كواحد من اهم الشعراء الذين احترموا خصوصيتهم في عمق ترسخهم التراثي وعبر المساحة الممتدة من احمد الصالح مرورا بالصيخان والثبيتي والحربيين والدمينيين وليس انتهاء بالعروى هناك عشرات النماذج التي لا استطيع ان اعددها كلها تنحت في صخر التجربة الخاصة حضاريا وثقافيا وانسانيا كلها تعطي التجربة الابداعية ملامحها الخاصة ولاشك ان الدراسة التي يمكن ان ينهض بأعبائها الباحثون فرادى وجماعات هي التي ستجيب على سؤالك هذا وان كنت في محاولاتي التي يضمها كتاب )محفوظ( لدي قد حاولت ان اقترب من شاطىء هذه الاجابة وفي دراستك انت )ذاكرة الصحراء( قد لامست هذه الاجابة بشكل او بآخر. * ومقارنة بالتجربة الروائية هل وجدت اتساقا في المرجعية الثقافية والبيئية الاجتماعية التي تنطلق منها؟ اذا كنت تقصد التجربة الشعرية في سؤالك فإن الانساق في المرجعية الثقافية والاجتماعية تبين الابداع الشعري والروائي وقد لا يكون واضحا تماما لاختلاف طبيعة الجنسين الادبيين فالشعر فيما هو ألصق بالتجربة الذاتية وارسخ في الجذر الابداعي في تربيتنا التراثية مرجعيته الثقافية قد تكون مختلفة عن تلك التي تخص الفن الروائي فيما هو فن مستحدث اكثر انتماء الى الثقافة الغربية ولكن مع تطور هذا الفن والرغبة في الخروج من أسر المناهج الغربية نجد ان اللواذ بالتراث من اهم مرافىء التجديد التي حرصت الرواية على ارتيادها لذا نجد اهم وسائل الخلاص من ازمة الشكل استثمار التراث من هنا تقاربت المرجعية الثقافية لدى الفنيين وربما كانت «العصفورية» مثالا حيا على ذلك فالمعلومة كما يرى الدكتور الغذامي بطلة العصفورية وهي في ذات الوقت مسكونة بالتراث لذا تردد ذكر المتنبي وحضوره حتى كاد ديوان المتنبي يكون بطلا للعصفورية في تقنية روائية غير مسبوقة ولكن الرواية المنتظرة لم تنشر بعد ولعل المشكلة تكمن في تشتت جهد كاتب السرد، فليس هناك من يتوفرعلى كتابة الرواية ويراكم منجزاته بعد فيما عدا عبد الرحمن منيف ولكنه يكتب من موقع آخر وفي سباق مختلف وربما كان عبد العزيز بشرى ممن عمل على تراكم المنجز الروائي ولكن ظروفه الخاصة حرمته من ذلك على اية حال فإن شروط الرواية المرجعية أكثر وضوحا خصوصا فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي، في حين للشعر فضاءات متعددة تتجاوز التخوم الاجتماعية الى آفاق ارحب. * ما مدى استيعاب التجربة الروائية لإشكالات الواقع الاجتماعي والبيئي في المملكة؟ ما زال هناك بون بين الرواية وبين الواقع الاجتماعي لأن المعالجة الروائية ليست وصفا لهذا الواقع ولا تجسيدا لقضاياه ولو كان الامر كذلك لاعتبرنا ما أنجز حتى الآن كافيا ولكن الرواية تحققٌ رؤيوي جمالي يقارب تجريداته الواقع في مستوى يعلو على تعيناته وتجلياته إنه بصيرة تخترق الشخص وتستند في الغياب عبر مساءلة شواهده هذه المساءلة التي تتم عبر شبكة معقدة من النسيج الفني الجمالي لقد كان على الرواية ان تمارس الحضور عبر عقود متعددة لتصل الى مدخل المقارنة ومشهد القراءة النافذة لما بين سطور الحاضر عبر مطاردة قاسية لظلال الغياب المستكن في ضمير الشواهد الماثلة فالرواية قد تكون في نماذجها المنشورة قد تجاوزت مرحلة الاستيعاب والاستشفاف في انتظار التمثل الذي تتخلق في ترجمة البصيرة الجمالية عبر السرد. * رصدت في كتابك الاخير .. اهم سمات التجربة النقدية في المملكة في خطاباتها المتعددة. فهل ثمة ناظم معياري افقي يجمعهما؟ الناظم المعياري، اذا كان المقصود به القواسم المشتركة التي تجمع بين المعالجات النقدية النظرية والتطبيقية من حيث بؤر الاهتمام فلاشك ان هذا الناظم موجود ممثلا في القضايا النقدية الرئيسية التي دار حولها الجدل وتكاتف الحوار وكتبت الابحاث وكذلك الاعمال الابداعية المدروسة. غير ان هناك امكانات تصنيفية متعددة كالمدارس والاتجاهات والتطور التاريخي واثر المنجزات الحديثة في الحركة النقدية في العالم ومدى تعبير النقد في خطاباته المتعددة عن خصوصية الحركة الابداعية وتجاوب هذه الخطابات مع منجزات النظرية النقدية كما ذكرت. * المشهد الثقافي في بلادنا.. هل عبر بمعطياته الحالية عن حقيقة انساقه الواقعية والمشاهدة؟ المشهد الثقافي ليس مجرد اصدارات وحوارات وتحقيقات انما هو ابعد من ذلك انه الابداع في اخص خصائصه والنقد في عمق مقارناته نظريا وتطبيقيا والفكر بكافة تجلياته وتمظهراته واذا كان الامر كذلك فإنه من الصعب الاحاطة به وينطبق على الثقافة ما ينطبق على الواقع وانساقه فثمة واقع متراكب البنية سواء في تلك الانساق الاقتصادية والسلوكية لمختلف الشرائح والواقع المتحول بأعرافه ومنظومات القيم فيه ولكن الذي لا يمكن الشك فيه ان الثقافة وإن بدت مستعلية في بعض اشكال ممارساتها حبيسة القواقع المنبرية او الاهتمامات الفلسفية فهي لصيقة الاتصال بنبض هذا الواقع قد تخطىء احيانا في اقتناص ايقاعها ولكنها تتناغم في اغلب الاحيان مع جوهر خفقانه ومع هذا يظل هذا الرأي انطباعيا عاما ما لم تسنده دراسة جادة بل دراسات تتناول الواقع بالتوصيف والتحليل وكذلك الثقافة بالدرس المعمق على نحو منهجي مرسوم.