في هذه الحلقة، وهي الأخيرة التي نطل منها على المجتمع، من خلال آراء ووجهات نظر الأستاذ عبدالله البكر. في كتابه إطلالة على المجتمع، الذي نشره النادي الأدبي بحائل عام 1419ه، سوف نمر به عرضاً.. ولن ندخل في مناقشة كل موضوع من موضوعات الكتاب البالغة 50 على حدة، وإبانة افكاره وتوصياته ونصائحه التي هي وليدة تجاربه الطويلة، ويريد بها إصلاح المجتمع بالايجابيات، وإبعاد السلبيات عنه، رغبة في تحسين الوضع، والارتقاء بالمجتمع الى الاحسن. إذ رغم اهتمامه بالصحافة التي خصص لها 8 موضوعات. فقد محض التربية والتعليم نصحه وتوجيهه، وشارك بآرائه النقدية البناءة، وعالج أموراً دينية من الوجهة الاسلامية: دعوة، وتقوية إيمان، وتعاملاً وصدقاً، ولم ينس الادب والثقافة، لأن ذلك هاجسه وميدانه الذي تخصص فيه، وتناول الأندية الأدبية بما يراه معيناً في تحريكها، لكي تصل الى المنزلة المرجوة: عملاً ونتائج في الأداء.. وفي حرصه على الارتقاء بالأدب، يقسو على الأدب الرخيص، وما يترك وراءه من اضرار ..)الموضوع 43 ص 168 -170(. ولما في ذلك الأدب الرخيص الذي تزخر به المكتبات العامة والخاصة في كثير من البلدان العربية - خليجية وغير خليجية - كما تمتلئ الطرقات بنوع تافه من الجرائد والمجلات، محلية وأجنبية ، وكذلك بعض المؤلفات الوضيعة- جنّبنا الله عدواها - تلك - كما يقول - هي الروايات الوضيعة، والقصص المهينة، التي يرسلها اصحابها في الدروب والطرقات، كالأفاعي تلدغ من يلمسها، وتسمُّ من يقرؤها، ويذيعونها في أوساط الشباب - في عرض سخيف ممل، لا لمبدأ يشيعونه، أو اصلاح اجتماعي ينشدونه، وانما للمال يتصيّدونه ويجمعونه، ولو داسوا في طريقهم إليه: فضائل الاخلاق، ومستقبل الأجيال.ثم يذكر من صفات مدّعي هذا الادب الرخيص: تعمد ما يثير غرائز الشباب والشابات، ويناغي شهواتهم، ويغمز الغرائز الجنسية فيهم، فيعرضون عليهم من صور الحياة الماجنة، ما يثير الشباب وفتنته، ويهيّج الصِّبا وميعته وكأنما عجزوا عن تقديم الخير، فقصدوا الى الشر، الى آخر ما ذكر من أعمال اولئك المتأدبين، أو المتطفلين على الأدب.. ولا يلام في حكمه القاسي عليهم، ولا في شدته على أعمالهم الرخيصة، لأن الضرر على الأمة شديد الوطأة، ولأن ادبهم هذا يكاد يوحي الى ضحاياهم، ان الحياة ما هي إلا هذا الرجس، وذلك الدنس، وتلك الصور الحيوانية الخسيسة، مع ان المعاني الشريفة ملء الارض والسماء..وقد حكم على مَن هذه بضاعته بقوله: ما هؤلاء بالأدباء، وإنما هم تجار ادب، ومبتزو اموال، وأدبهم من ادب الشيطان، لا ادب الرحمة والملائكة، يتّجرون فيه بأخلاق الجيل، ومستقبل الوطن، وما اشبه تجارة الاخلاق هذه، بتجارة الأعراض، فلمَ لا يتعقب المسؤولون النصحاء لله وللوطن - والأصح ثم للوطن - : هذه الاقلام والأفلام، التي تقطر سُمّاً فتحطمها، قبل ان يمتلئ النشء من هذه الآداب والافكار الموبوءة، وذلك الغذاء المسموم، فيستشري الداء، وتفوت فرصة الشفاء؟ثم يعطف نصحه للآباء والشباب، لتصحيح ما قد وقر في قلوبهم من فهم خاطئ ليصحح هذا الفهم بقوله: ومن الخطأ ان يُعَدَّ أو يتوهم الشباب، أو يعتقد الآباء ، أن قراءة أو مشاهدة الصور والأحداث الوضيعة، هي مجرد مسلاة، ومحض ملهاة، فإن القراءة والمشاهدة غذاء تتربى بها الطباع، وتنمو عليها الاخلاق، ولا شك ان لهذه المشاهد الساقطة، في أخيلة الناس ومقاييسهم، إيحاءً شريراً في قلوبهم ورؤوسهم، وتوجيهاً خطراً لشحنة الشباب في نفوسهم. ثم يحمِّل مَن بيدهم الأمر مهمة الحد من هذا الامر فيقول: وإذا لم يكن بدُّ، ان يكون في بعض المجتمعات سفاكو أخلاق، ومجرمو أقلام وأفلام، فعلى أولي الأمر منهم، والمربين فيهم، أن يطاردوا هذه السموم وأصحابها، وأن يعلنوا على الملأ آثارها وأضرارها، وأن يسنُّوا من في القوانين والأنظمة ما يضرب على هذه الايدي الآثمة، ويحرّم هذه التجارة الجارمة، وحماية المجتمع اولى من حماية الفرد، واذا كانت الحكومات تخفُّ لمصادرة الأطعمة الفاسدة، فما أحراها أن تسارع الى إحراق الأفلام الخليعة، وقصف الأقلام العابثة، والأغاني المائعة، ومصادرة كل نوع سليط ماجن، فإن اخلاق الناس اغلى من اجسادهم، وأمراض الخُلُق أشقُّ طِبّاً، وأعصى علاجاً، حين تخثر او تجمُّ، وكل شيء هيّن إلا اخلاق الشباب، ومستقبل الاجيال، فالتهاون فيها مقدمة البوار، والمجازفة بها طريق الهزيمة والانهيار. وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلا )ص 169-170(. ولما كان بعض الناس يفتتن بالزواج من الخارج، لأنه ينبهر بالمظاهر والجمال المكشوف، في بلاد لا حجاب ولا تستر فيها، فتعجبه المرأة الحسناء، دون ان يتحقق من منبتها: هل كان حسناً أم سيئاً. ورسول الله صلى الله عليه وسلم حذَّر من ذلك بقوله الكريم: «إياكم وخضراء الدمن؟ قالوا يا رسول الله ، وما خضراء الدمن؟ قال المرأة الحسناء في المنبت السوء» وأخبر عليه الصلاة والسلام: «أن المرأة تنكح لمالها وجمالها وحسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك».. حيث جعل صلى الله عليه وسلم مقياس الدين، هو الكفة الراجحة.. لأنه يغني عن المال الذي يذهب ، والجمال الذي يذبل، والحسب الذي يزول، ولا يبقى طريّاً ثابت الأسس إلا الدين الذي به الأمان والثقة.إذ في الموضوع 44 الذي جعل عنوانه «خضراء الدمن»، يتحدث الأستاذ عبدالله عن حكاية واقعية، عايش أحداثها، وشارك في بعض فصولها )ص 171-177( ، بما يبرز ابتزاز من يتزوج من الخارج وسوء نتيجة ذلك الزواج في الأعم الأغلب.. وتظهر أساليب ذلك بصور متنوعة، تدور في حلقة الطمع المادي.. وما اكثر ما يروى من قصص، تتماثل مع حكاية صاحب هذا الموضوع، الذي خدع، وبدل ان يعود بزوجة تعيش معه بقية عمره، إذا به يعود خاوي الوفاض، صفر اليدين، بعد ان قيد الى تبديد كل ما جمع من مال، في خلال ايام قليلة.. ولم يظفر بشيء، بل خسر كل شيء.. في مشهد تمثيلي قام بأدواره كلها والد تلك الفتاة، الذي أعطى ابنته دوراً تمثيلياً، لتسلب عقل الزوج الغريب، ومن ثم ماله.. لعدم التجانس في الطباع، والتوافق في المزاج، اذ كيف تتقارب القلوب، والعمر الزمني بينهما شاسع، فهو اكبر من أبيها، وهي اصغر من بناته، إن لم تكن في سن إحدى حفيداته.عندما حلّل الأستاذ عبدالله هذه الواقعة، فإنما يحذر من مثل هذه التصرفات، التي تجعل الزواج من الخارج، كبش فداء، يستغله الطامعون وذوو المآرب.. مما جعل راغبي الزواج من الخارج، صيداً ثميناً لمن بسطوا حبائلهم مترصدين.. وان في نساء بلادنا ، الذين زادت عنوستهن ما يحقق الغرض، وتستقيم معه العشرة. ولا يظن أولئك أن الزواج من الخارج أيسر كلفة، وأخف مؤونة.. بل إن الدخول في الشبكات سهل، ولكن الخروج منها صعب، وتبعات ذلك الزواج المتتالية عاماً بعد عام، تزداد معها الكلفة، وإن قلَّت النفقة، كثرت المشكلات.. وقد أصاب المؤلف المحزَّ بتشخيص الداء، وليته وصف الدواء، وأعان مع حكم خبرته بالحلول والوصايا.. وقد يعتبر الموضوع 32 وشهد شاهد من أهلها )ص 127-130( ، من الحلول المناسبة في الاعانة على تخفيف أعباء الزواج، وتقليل العنوسة، التي تزايد عددها مع ارتفاع المستوى التعليمي للمرأة. ذلك أن مقالاً كتبته موجِّهة عن بنات جنسها لفت نظره، وعنوانه: «تعدد الزوجات والطلاق»، وأعجبه بصراحته النادرة، والشجاعة الفذة الفريدة من نوعها، في إقدامها على مثل هذا المقال الذي تدعو فيه الى التعدد، وقد أيدها في رأيها، وأورد استشهادات من قضاة ومفكري الغرب، الدَّاعين إلى التعدد لما فيه من محاسن فنّدوها، ومقت ما قالته كاتبة مصرية حول التعدد، حيث لا ترى ذلك، واعتبر ذلك اعتراضاً على منهج التعدد وإباحته بأمر شرعي، وضع لها الاسلام قيوداً بالعدالة وأداء حق الزوجات.. واعتبر ما يدعو إليه بعض كتّاب الغرب، ضرباً من الحقد على الاسلام، رغبة في تشويه صورته انتقاماً من هزائمهم في الحروب الصليبية أمام المسلمين حتى أخرجوهم من بلاد الشام.. ومع انتقادهم التعدد في الاسلام، فقد أباحوا الحرام، بالصديقات. ثم يقول: ومن المؤسف ان تتسرب بعض هذه الأفكار الغربية الكافرة، الى المجتمعات الاسلامية، فيتنكر بعضهم لما أحله الله وأباحه، وكم سمعنا ونسمع من هذا القبيل من بعض أشخاص في إنكارهم للتعدد، وانتقادهم اللاذع مما يتفكه به كثيرون، وأنا متأكد كما ذكرت ان اكثرهم من المغلوب على أمره، الراغب الخائف..ونخشى عليه من الخوف، لأنه بعدما استطرد في استشهاداته قال: آملاً ألا يفهم أني داعية الى التعدد- رغم أنني من ذويه- فإنني لا أرتضيه لأحد بدون مبرر، وضرورة قصوى، فإن التعدد له مساوئه التي ترجح المحاسن أحياناً، فقد تطلب به الراحة، فيكون الضرر أشد على رأي أبي العلاء: ومن جمع الضرّات يطلب راحةً فقد بات في الإضرار غير سديد وعندي ان قول أبي العلاء لا يعتبر مقياساً، لأنه لم يتزوج أصلاً، ولم ينجب ولداً، وله طباعه التي انتقد فيها، والشاذ كما يقولون لا حكم له، لأن الله جل وعلا أحكم وأعلم، عندما أباح التعدد في محكم التنزيل الى اربع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو قدوة الأمة، قد عدّد وعدّد الصحابة.. لما في هذا من منافع في تكثير عدد المسلمين، الذين على أيديهم وبإخلاصهم وجهادهم انتشر الاسلام في كل مكان، فكان من أبرز فوائد التعدد تكثير النسل الذين بهم يحصل التعويض عمن يقتل في المعارك، ويكبر حجم المسلمين ليرهبوا أعداءهم، وينصر الله بهم دينه. وبعد هذا المشوار الممتع نرى المؤلف يضع في ص 196خاتمة ذيلها بتوقيعه، تعتبر توضيحاً عن مقصده الذي رمز إليه، ممزوجة بنصائحه للشباب المتعلمين، ان يستثمروا قراءاتهم لكبار الكتّاب ، كي يفيدوا منهم ويقلدوهم، ثم يجهدهم ما رجوه من نفع وتوفيق.. ومما جاء في هذه الخاتمة قوله: هذه بمثابة نصح وارشاد لمرتادي الثقافة، ولمن يرغبون ان تكون كتاباتهم عالية الاسلوب، رفيعة المستوى، مجنحة الخيال، فالأدباء كثيرون، والكتّاب اكثر والكتب اكثر، والكتب الادبية أكثر وأكثر، وبها الغث والسمين، ولا يكفي مَن يريد ان يَثْقُف ان يمر عينيه على صفحات الكتاب، الذي يتصفحه مرة واحدة وكفى، بل لا بدَّ من الادمان وقوة التأمل، والحفظ الذي يربي في المنشئ ملكة التخيل الصحيح، التي هي اصل البلاغة، ولا بلاغة بدونها، كما يجب ان يعنى مرتادو الثقافة الصحيحة بالكتب ذات الفكرة الدقيقة، والنظرات الصائبة، في ثنايا الحياة، وحشايا المجتمع، ليتذّوقوا طعم الانشاء المرتفع، على أنه فن لا بد ان يكون للعقل والقلب نصيب منه، حيث إنه قد ذهب ومضى العهد الذي كان يظن فيه بعض الناس ان الانشاء والكتابة ألفاظ تزوّق، وجمل ترص، وتزخرف بكل لفظ لغوي غريب، فالحق ان الانشاء معانٍ كريمة وفكر قويمة وأخيلة طيّعة، وتصوير ادبي، ثم ألفاظ ناعمة، وعبارات باسمة، تبدو من بينها المعاني، سافرة مشرقة، فالمعنى هو روح الانشاء، واللفظ جسد له. فالمؤلِّف الذي بدأ كتابه بإهداء جميل إلى سمو الأمير مقرن بن عبدالعزيز، عرفاناً بدوره على مدينة حائل وهو من إهداء الفضل لأهله، فقد قدّم لطلابه الذين حملوا عبء التعليم بعده في حائل، خلاصة تجاربه، ناصحاً، وحشاشة فكره موجهاً .. ثم ختم كتابه بقطعة ادبية رفيعة المستوى، معبرة عن محض النصح للكتّاب والأدباء، بتمكين قاعدتهم الصلبة، وتخصيص وقت للارتقاء ، بالفكر قبل تعويد التعلم، وتعبئة الذاكرة بالنافع المفيد، قبل محاولة الخوض في مضمار الإنتاج.. حتى يكون أدبهم رفيعاً، وعملهم رشداً.. ومع تزكية هذا الكتاب لجودته، وما يرتجى منه من نفع للناشئة بأسلوبه وسلاسته، وللإعلاميين بأهدافه ومنهجيته ، وللمدرسين بأفكاره التربوية، التي جاءت عن تجربة ومعاناة، وللمثقفين بزيادة حصيلتهم بما طرح من أفكار، وما ناقش من آراء شتى، قد يختلف معه بعضهم، لكن المعنى متاح للجميع، يكسوه كل واحد بالثوب الملائم معه، والمصلحة المرجوّة.وما في الكتاب في هنّات قليلة لا تنقص من قدره، بل يمكن تجاوزها في طبعة ثانية، وجلَّ من لا يسهو ولا نقص في صفاته سبحانه وأعماله.. والشاعر يقول: إن تجد عيباً فسدّ الخللا جل من لا عيب فيه وعلا ومن تلك الهنّات: عدم بدء الكتاب بالبسملة، التي هي من اللوازم، الضرورية لكل أمر ذي بال. ولئن بدأ المدخل بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فان الأولى سبق ذلك بحمد الله. الصفحات الاولى الثمان لم ترقّم. كما انه يورد آيات وأحاديث نبوية.. فليته رقّم الآيات، وخرّج الأحاديث، لأهمية ذلك في الاستدلال والتوثيق. يبدو ان الاشراف على التصحيح كان ضعيفاً لكثرة الاخطاء الطباعية، وسقط بعض الحروف.. ووضع حرف بدل حرف آخر، مما يحيل المعنى عما قصده الكاتب. ليته وثَّق الكلمات بزمنها ومناسبتها، حتى تكون مرجعا لبعض الأحداث المتعلقة بالبلد، وهذا من إفادة القراء والباحثين، وقد لا حظت انه يجعل أرقاما يحيل اليها، ولكن الطابع يغفل المقصود وهذا متكرر في عدة اماكن. هناك تكرار لأخطاء شائعة قد تكون غير مقصودة مثل جمع مشكلة على مشاكل، والصحيح مشكلات لأنها جمع مؤنث سالم مثل بقرة بقرات، وجمع مشروع على مشاريع، وموضوع على مواضيع، وهذا بخلاف القاعدة النحوية، فالجمع: مشروعات وموضوعات.. جاء عند بعض النحويين ان مفعول لم يجمع على مفعولات إلا في سبع حالات سماعاً. وليت ان جميع اصدارات النوادي ترتقي الى هذا المستوى، لما تحققه من فائدة ونفع. الفرزدق والأنصاري: جاء في أمالي المرزوقي المتوفى عام 1421ه: ان الفرزدق وكثيّر عزة وابراهيم بن محمد كانوا جلوساً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناشدون الأشعار، وتذكر ايام العرب، إذ طلع غلام في ثوبين ممصّرين، ثم قصد نحوهم، فلم يسلم وقال: أيكم الفرزدق؟ قال الفرزدق: من أنت؟ لا أم لك. قال: رجل من الانصار، ثم من بني النجار ثم أنا ابن ابي بكر بن حزم. قال: انا الفرزدق فما حاجتك؟ قال: بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب، وتزعمه مضر، وقد قال صاحبنا حسان بن ثابت شعراً، فأردت أن أعرضه عليك، وأوجّلك فيه سنة، فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب. وإلا فأنت كذاب منتحل. قال الفرزدق هات ويلك.. فأنشده قول حسان: ألم تسأل الربع الجديد التكلّما بمدفع أشداخ فبرقة أظلما.. الى آخر القصيدة وقال: اني أجّلتك سنة ثم انصرف، وقام الفرزدق مغضباً يسحب رداءه لا يدري أين طرفه، حتى خرج من المسجد، واقبل على كثيّر عزة فقال: قاتل الله الانصاري ما أفصح لهجته، وما أوضح حجته، قال ابراهيم: فلم نزل في حديثهما بقية يومنا، حتى اذا كان الغد، خرجت من منزلي الى المسجد، فجلست في المجلس الذي كنت فيه بالأمس، وأتاني كثيّر، فجلس معي، فإنّا لنتذاكر الفرزدق، ونقول: ليت شعري ما فعل الفرزدق؟ إذ طلع علينا في حلة أفواف، له غديرتان، حتى جلس في مجلسه بالأمس، ثم قال: ما فعل الغلام الانصاري؟ فنلنا منه وشتمناه، فقال: قاتله الله، ما رميت بمثله، ولا سمعت بمثل شعره قط، فبعدما فارقتكما أتيت منزلي، وأقبلت أصعّد وأصوّب في كل فن من الشعر، فكأني مفحم لم أقل شعراً قط، حتى اذا نادى المؤذن بالفجر، رحلت ناقتي، ثم أخذت بزمامها فقدتها حتى أتيت ذباباً - جبل بالمدينة - ثم ناديت بأعلى صوتي: «اجيبوا»، أخاكم يالُبَيْنَى. فجاش صدري كما يجيش المرجل، فعقلت ناقتي، ثم توسّدت ذراعها، فما قمت حتى قلت: مائة وثلاثة عشر بيتاً. فبينا الفرزدق ينشد، إذ طلع الأنصاري، فأقبل نحونا حتى اذا انتهى إلينا سلّم، ثم قال: أما إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وُقّتَ لك، ولكنني ألاّ أراك إلا سألتك، ما صنعت ، فقال له الفرزدق اجلس لا أم لك ، ثم أنشده: عزفْتَ بأعشاش وما كدت تعزف وأنكرت من حدْراء ما كنت تعرف فلما فرغ منها قال: قد سمعت ، لا أم لك، فأنت وما سمعت، فقام الأنصاري كئيباً ، فلما توارى طلع علينا أبوه في مشيخة من الانصار، فسلّموا علينا، وقالوا: يا أبا فراس، إنك قد عرفت حالنا ومكاننا من رسول الله ووصيته فينا، وقد بلغنا أن سفيها من سفهائنا تعرّض لك بما نحن والله له كارهون، وبك وعنه متنزّهون، فنحن نسألك بالله لما حفظت وصية رسول الله فينا، ووهبتنا له، ولم يكن منك ما لا يجمل بك.. فأقبل إبراهيم وكثيّر يكلِّمونه، وتكلّم الناس من نواحي المسجد: يا أبا فراس.. فلما أكثروا عليه قال: فإنى قد وهبتكم لهذا القرشيّ يعني إبراهيم بن محمد )432- 434(.