لا أعرف ما مدى استطاعتنا خلال فترة هذا الزخم الأدبي، لأنواع سردية: أشباه سير، ونتف مذكرات، وروايات مؤجلة، وشعرية: دوادوين خفيفة وقصائد مثقلة، بعضها في حواسيب أصحابها، وبعضها الآخر معروض على شبكات النت، أن تجعلنا نفرِّق بين مرحلة ثقافية بادئة، لنسمِّها مجازاً: ما بعد الحداثة (أو ما بعد التقنية!)، وأخرى تغلق على نفسها بوابة دورية لم يستطع أصحابها ردها أو الخروج منها: الحداثة (ما قبل التقنية!)، وبين توفر منافذ العرض والبيع كاسرة الرقابة، بقدر حرمان الكثير من وسيلة القراءة الخالدة في الكتب، وهذه الفوضى الجميلة لنصوص إبداعية مغايرة ومختلفة. إن هذه المرحلة الثقافية تشهد موضوعاتها المهمة والمؤثرة: هوية الٍأقليات (فئوية، مذهبية، إثنية) بفرداتها وفردانيتها هازة المركزية والواحدية، وتفكيك حبس التاريخ إلى دنيوية الزمن، والوفرة المعرفية إعلامياً وشبكياً إزاء التشنج الأيديولوجي والانغلاق الطوائفي. ولا أقول هذا الكلام لكوني سأحاول أن أقدم مقالة عن رواية: "شباب الرياض" لطارق العتيبي، الصادرة عن دار الشفق - 2006، التي خانت نفسها نصياً مرتين، مرة باسمها: شباب الرياض، وأخرى بتصنيفها رواية فقط!، ولكن أرى في هذا النص مثلما في روايات توفرت قراءتها على مزيد من الدهشة والتأمل، مثل رواية: جاهلية لليلى الجهني (دار الآداب - 2006)، والأوبة لوردة عبدالملك (دار الساقي - 2006)، والآخرون لصبا الحرز (دار الساقي - 2006).. وربما روايات أخرى تنتظر القراءة: حب في السعودية لإبراهيم بادي (دار الآداب - 2007)، وسعوديات لسارة العليوي (دار فراديس - 2006). إن ما ألفتني في كتاب: شباب الرياض، هما أمران، على حد ما تبين لي، بأن هناك جيلاً شاباً يقصد إلى طرح وجوده وتجربته (أو حكايته)، والأمر الآخر أن بعض هذه الحكايات من الممكن أن تكون قصصاً أو روايات أو سيناريو فيلم أي أنها مشاريع لأعمال تتجاوز الكتابة إلى المرئي والسمعي، وهذا ما رأيته في: شباب الرياض. فهي حكايتان لشخصيتين: وليد، وخالد. يجمع الاثنين أنهما من مدينة حائل، ويعانيان من عذاب تخلفه أسر تتجاوز العادة والتقليد، بمخاطرة لا تنفذها التجربة بعرضها، من خلال موضوعة الزواج بامرأة من خارج المنطقة (أردنية أو فلسطينية)، فوليد سيعاني من حادثة طلاق قسرية أجبر والده عليها، ومن ثمَّ رجوع والدته وحيدة بلا زوج ولا ولد إلى أهلها في الأردن حتى يعيد الجد (لأبيه) صلة بعدما فات الأوان، والأمر الآخر هو أزمة التبدي مع التحضر، وهذه هي معاناة خالد وأمه بزواجها من خارج العرف القبلي، لوجود ذهنية تروِّج للتركيبة الفئوية التي سمحت بسيطرة الذهنية القبلية الموروثة من بعد نزع سلطويتها السياسية والعسكرية تنتقل إلى ممارستها في العرف الاجتماعي متمثلة على صيغة كتاب مقدس، على حد تعبير أحد أبطال الرواية (ص: 19)، ووضعها تصانيف فئوية (بيسري أو خضيري أو صانع) لمن أجبرته ظروف على التخلي عن إشهار انتمائها لهذه القبيلة أو ذلك الحلف القبلي، إما لحروب يتخوف من ثاراتها، وإما لامتهان عمل وضيع بعد طرد متعسف. فالحكاية في هذا الكتاب متكونة من خمسة فصول، تتمحور حول حكايتي: وليد وخالد، اللذان سيلتقيان في الرياض زمن دراستهما الجامعية، وتدخل شخصيات مشتركة كعناصر تضفي الفروع أو التنويع علىِ الحكايتين، وإن كانت بعض المرجعيات الاجتماعية والسِّيءريَّة غائبة إلا من بقاء بعض المواقف العارضة لتوضح التركيبة النفسية لكل واحد من هؤلاء الأشخاص، وإن كانت الضرورة حتمت على الرواي/الكاتب أن يضفِّر أحد المقاطع بتعريف الأسماء التي ستسكن الشقة السادسة، وعن اختصاصاتهم الدراسية ما بين جامعة الملك سعود وجامعة الإمام محمد بن سعود، في البطاقة الشخصية التي وضعت (ص: 57)، واضطراره إلى استخدامها مرة أخرى، وبشكل آخر أيضاً، لتبرير توقف زمن الشخصيات، بالتالي هو توقُفُ زمن الحكايتين المحوريتين، في الفصل الثالث، شباب الشقة (ص: 130). فإذا ما طالعنا العناوين التفصيلية، المعدَّة كمشاهد مقطعة، ووضع خط سير زمني متواز يتقدم أحدهما، وهو خط حكاية وليد، على خط حكاية خالد، فهي تنبئ بمشاهد اتخذت حركة متوازنة في عرضها لحكاية وليد، وأبو بدر، وعمه فيصل، وزوج عمته، وزوجة أبيه، وجده، ومن ثمَّ الحكاية الثانية الأقل تفاصيل ما بين وعلاقته بأمه وأخواله، وصديقه حمود. فيما تحتفظ بحالة توازن كادت أن تنفلت بعد الفصل الثالث بالسرعة والتلاشي، لولا اقتصارها على حالة الالتقاء في الخط الواحد الذي اتحد في النهاية. وإن كان ضع خط متواز يقدم حكاية على أخرى، ليوحي بحجم المتغير الاجتماعي الذي تفضي به علاقة الزواج من خارج عوائل المنطقة، وهذا في حكاية وليد، وهو ما نراه بشكل واضح في موضوعات قصص لأميمة الخميس (ورواية البحريات، لها أيضاً)، ولكن الفارق هو أن هذه الزيجة لم تكمل تجربتها بل إن العنصر الخارجي لُفظَ تماماً فكأنما بُتر!، ولكن ظلت ملامحه باقية على صورة وشكل وليد، الطفل الأبيض ذو الشعر الأسود (ص: 7). بينما بقيت حكاية خالد تتوازى في خط ثان لمسألة الزواج، ليس من خارج المنطقة، بل من داخلها، وإنما من خارج القبيلة، وهذا ما وضع شخصية خالد في ميزة تالية، ليست أدنى ولا أقل، بل إن الصداقة التي ستجمع بينهما لتكشف أن السلوك المدني، بما يتيحه من قبول المختلف والمتعدد، هو ما أتاح لهما قبول بعضهما اجتماعياً وثقافياً، وتمثل ذلك في وسط مجتمعهما كعائلتيهما بأن ذهب وليد في تجربته إلى تحقيق طموحه بعد ترك الجامعة والعمل في مهن سبقت تفوقه كشاعر وصحفي، فيما تهاوى عمه وزوج عمته في تجارة المخدرات التي أودت بهما نحو طريق مظلم كان وليد أحد الصحفيين الذين غطوا تلك الحادثة، فيما واصل خالد دراسته حتى صار معيداً يطمح إلى شهادات عليا رفعت من مكانته الاجتماعية بين أخواله الذين ما كان لهم إلا تحقير أختهم وزواجها المرفوض من قبلهم، وهذا ما يجعلنا نصل في هذه الحكاية إلى توقع أن تكون نهاية ما توقفت عنده رواية: فخاخ الرائحة، ليوسف المحيميد، التي عرضت حياة الشاب ناصر نتاج زيجة غير موافق عليها اجتماعياً. وبين ما يمكن أن نعمقه من تناولات سردية لأميمة الخميس في قصصها وروايتها البحريات، وبطلتها بهيجة، وأم وليد (نهى) الفاقدة بعذابها والمغتربة بعيدة، وبين ذلك العشق القمري الذي طاف شارع الوزير، وطفح بناصر الذي هو أحد صور خالد السابقة. ومن هنا قراءتي لهذا النص كسيناريو لا كرواية، وهذا ربما ما يغضب من كتب الفصل الأخير بالرواية الذي يوحي بأنه الداعم المعنوي والمشجع لصاحبها دفعاً له، على أن عنوانه اشتبه مع عنوان رواية سبقت وصدرت: بنات الرياض إلا أن: شباب الرياض، ليست عن شباب الرياض بل عن شباب جاءوا إلى الرياض، وكنت أتمنى لو كان اسمها غير ذلك مثلما تمنيت أن كتب عليها غير صفة: رواية، مثلما ألفتني أن يكتب اسم الكاتب الثلاثي على الغلاف الخارجي للكتاب فيما يكتب اسم ثنائي لنفس الكاتب في الغلاف الداخلي! وهذا لا يعيب النص، ولا جماليته، خاصة، بتجاوزنا الكبير من بعض الهنات الأسلوبية، في إملاء حرف (الضاد) المبدل ب (الظاء)، وبعض الجمل الأدبية المبالغة: شهاباً يسقط من السماء (ص: 8)، أجمل وأطهر مخلوق (ص: 32)، جحافل الشوق (ص: 99)، والمشاهد المبالغ بها (كما لو كانت دراما مسرحية) انهيار جدة وليد (ص: 31)، خيانة نورا الجنسية لبدر أبي وليد (ص: 42)، والجاهزة: على أهبة الاستعداد (ص: 14)، كلام عمة وليد: أيها الظالم الوغد (ص: 49)، والبلاغية المعطوية: وصف حال وليد الذي يصعب على غولدا مائير (ص: 30)، أو من باب ثقافة الترجمة التلفزيونية: فليذهب إلى الجحيم (ص: 49) الترجمة الحرفية لعبارة: Go to Hell !، فيما تميز النص بحرارة الحوار وعفويته، وبعض الجمل الجميلة الطافرة دون تعنت مثل: الصحراء النجدية الكاملة الأوصاف (ص: 68)، ورائحة العطر الغازي المحتل للمشاعر (ص: 82)، والمرأة عندما تعشق يستحيل أن تنسى معشوقها (ص: 108)، والتلميحات الذكية عن: الحق الضايع (ص: 75)، وقتل الحب (ص: 80). ومن الميز التي ترصد هو أن الكاتب اعتمد على واقعية تصل حد وضع الإيهام حقيقة عندما بدأ النص بإهداء إلى أبطال حقيقيين، بدل أسمائهم بأخرى، ووضع تاريخ ميلاد بطله وليد باليوم والشهر والسنة، أو وضعه رقم هاتف ثابت! وكذلك تميزت القصائد الثلاث التي كتبت بوحي من التجربة الأسلوبية لنزار قباني حيث انفلت أحد أسطر القصيدة الثانية من الأثر نحو الصهر وإعادة الإنتاج: "ففي الرياض الحب ليس خطيئة/من قال إن العشق في بلدي حرام؟!". وأظن أن المسألة تتعدى قراءة هذا النص عملاً روائياً ذا حمولات سرد - أدبية بل يمكن أن تحوله القراءة الاحتيالية إلى وثيقة اجتماعية بكونها مدونة حكائية تخون معيار السرد المتعارف عليه والمأمول إلى قائمة رصد اجتماعي بطرق وأساليب تفكير ومعيشة: فئات عمرية وجنوسية بين مدن كبيرة وصغيرة، والعلاقات الاجتماعية: حب، صداقة، زواج (الأقارب والأغيار)، وصور الأيديولوجيا الحاضرة، والثقافة الغائبة. أعتقد أننا بحاجة إلى مواهب، وربما أقلام تعمل عملاً مزدوجاً بين إبداع الأدب وتكريس سلوك ثقافي بالمكاشفة تعدداً واختلافاً، ولا بد من أن بين هذه المواقف من ستذهب بنا إلى أبعد مما نحلم بل تخلق أحلامنا، وتدفعنا إلى مسافات الدهشة أبعد مما أن تدنو إليه توقعاتنا، وربما ما ننتظره من طارق العتيبي ليس رواية فقط بل مشروعاً من الروايات والسيناريوهات وغيرها! إذن، فطارق العتيبي المولود في القريات (شمال المملكة) الذي سيكمل قبل نهاية هذا العام الثامنة والعشرين عاماً، والحاصل على شهادة في الحاسب الآلي، ويعمل في الصحافة، لمنتظر منه عدة أمور منها: تعميق قراءاته الأدبية في تقنيات وأساليب كتابة الرواية (عربياً ومترجماً)، والإطلاع الجاد على مستجدات العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية (علم اجتماع، أنثروبولوجيا..)، وقبل كل هذا تنمية مهارة التأمل والاندهاش من أعراف وعادات (أفكار وسلوك) المجتمع كشفاً لما هي عليه وما يمكن ألا تكون عليه!، وعندها العملية الإبداعية لا تقف عند باب السرد في الرواية بل القصة القصيرة، وأنواعها: فلسفية، واقعية، مشهدية، والرواية بأنواعها: تاريخية، نفسية، سياسية، والمسرحية بأنماطها: المونولوجية والمونودرامية، وربما أنواع سردية قمينة بها ذوات مبدعة منتظرة! بقي لي أن أقول أن هذه الفوضى السردية، لكتب ستصدر، سواء في ازدياد الإنتاج أو اعتساف تصنيفه، وربما الشعر بات بعيداً عنها، لكونه يعاني ويلات نزع الملحمية عنه، والاكتفاء بالشعر الغنائي، فإن حدود الشعر ما بين القصيدة القصيرة والطويلة، والمسرحية الشعرية، والمجموعة الشعرية باتت محددة، وظل المستوى بتأرجح في لعبة مد وجزر، بينما يقودنا هذا الفيضان السردي إلى حدود مفتوحة ربما لا تنوء بها مواقع شبكات النت ذاتها التي صارت معبراً لها، غير ما يمكن أن تتسعه الكتب دوماً، أقول ربما اندافعها سيجلب معه غير القصص والروايات بل ربما الأفلام والسينما، وتقنيات أخرى لا تقف عند البالتوك ولا البلوتوث، أتمنى ما ليس يتأخر ربما ألا يتأخر!