نتجول في بيئة العمل نستخلص منها العبر والدروس الإدارية، والمواقف التي تحصل نتيجة التفاعل الإنساني. وأجد من المناسب أن أبدأ هذه الجولة بقرار وزارة الخدمة المدنية باستبدال مسمى )مستخدم( بمسمى )مراسل مكتبي(، فقد وجدت في هذا القرار تغييراً ايجابياً يتضمن لمسة إنسانية. هذا التغيير ليس تغييراً شكلياً كما قد يظن البعض بل هو تغيير جوهري لمن أراد أن يتعمق في أبعاده ومسبباته. دعوني أبدأ معكم بهذه الحكاية الطريفة التي قرأتها في كتاب إداري بعنوان «السباحة مع أسماك القرش» من تأليف هارفي ماكي. دخل سيناتور نيوجيرس بيل برادلي أحد المطاعم، فأحضر له الجرسون قطعاً من الخبز، ولكن بدون زبدة، عندئذ طلب السيناتور من الجرسون بعض الزبدة. الجرسون هز رأسه علامة على أنه سيلبي الطلب، ولكن عشر دقائق مرت، بدون زبدة. السيناتور يتحدث للجرسون مرة أخرى، يطلب منه الزبدة. وتمر عشر دقائق أخرى بدون تحقيق طلبه، وهنا قال السيناتور: يبدو أنك لا تعرف من أنا.. فأنا خريج جامعة برينستون، ولاعب السلة المشهور، وأنا اليوم سيناتور في الولاياتالمتحدةالأمريكية عن ولاية نيو جيرسي، ورئيس اللجنة المالية، ورئيس لجنة الطاقة والمياه، وعضو كذا وكذا.. الخ. ثم رد عليه الجرسون: يبدو أنك لا تعرف من أنا: أنا الشاب المسؤول هنا عن الزبدة!! هنا ندخل إلى مكان العمل لتجد المسلمات الإدارية والمستويات الوظيفية، فهذا مدير، وهذا رئيس قسم، وهذا سكرتير، وهذا كاتب، وذاك مدير عام، وذاك وكيل أو وكيل مساعد إلى غير ذلك من التقسيمات والمسميات الإدارية. والسؤال الذي نطرحه اليوم: هل وضعت هذه المسميات والمستويات الوظيفية من أجل إعطاء الأهمية لشخص دون آخر، أو من أجل تحديد التعامل الإنساني وفقاً للمسمى الوظيفي، والمرتبة الوظيفية؟ الواقع أن الموظف إنسان مهم مهما كان موقعه الوظيفي أو مسماه، وما هذه التقسيمات إلا عملية تنظيم وتحديد للمسؤوليات والمهام .. ليس إلا. إن العلاقات الإنسانية التي يجب ان تسود في بيئة العمل يجب أن لا تتأثر بالمؤهلات العلمية والخبرات العملية، والمناصب الإدارية، فنحن في بيئة العمل فريق واحد كل منا يؤدي دوره الذي يتفق مع مؤهلاته وقدراته، ويقوم بالمسؤوليات الموكلة إليه، فكل عضو في هذا الفريق له أهميته، ومن غير المقبول أن نجعل المناصب الإدارية تسيطر علينا في التعامل مع زملاء العمل. لهذه الأسباب أقدر التغيير في المسمى الذي أحدثته وزارة الخدمة المدنية من )مستخدم( إلى )مراسل مكتبي( مؤكداً أنه تغيير يتعدى النطاق الشكلي إلى ما هو أبعد من ذلك. فلننظر إذن إلى أبعد من ذلك.. يعتقد بعض المديرين والرؤساء أن موقعه الوظيفي أو مؤهله العلمي، أو مرتبته الوظيفية، تحتم عليه أن يتعامل مع المرؤوسين والموظفين والزملاء بالطرق الرسمية الجافة فيضع جدرانا تفصل بينه وبينهم ويتجنب عبارات الود والتقدير والتحفيز والتشجيع، ويحاول أن يبحث دائماً عن الأخطاء والسلبيات قبل البحث عن الايجابيات، ويبدأ بالشك، ويتوقع دوماً أسوأ النتائج. إن المسمى الوظيفي والمؤهل العلمي والمرتبة الوظيفية لا تعني أن صاحبها هو الذي يمتلك الرأي الصواب، ولا تعني أنه إنسان مثالي دون غيره من الناس، ولا تعطيه الحق في التعامل مع الناس بفوقية، ولا الحق في التقليل من قدرات وإنجازات الآخرين.. الجميع في بيئة العمل بشر لهم حقوق وعليهم واجبات، وكل فرد يؤدي دوره كاملاً ولا يجب أن يقلل من شأنه مهما كان موقعه على خريطة العمل، ففريق العمل لا يعتمد على شخص واحد ولا يتحقق النجاح بدون وجود احترام متبادل بين جميع أعضائه. الأمر الآخر ان من أهم الحوافز المؤثرة هي الرضا الوظيفي وفي تحسين الأداء وزيادة الانتماء تلك الحوافز المعنوية المتمثلة في تقدير الأعمال الجيدة، وشكر أصحابها مهما كان مستواهم الوظيفي. )المراسل المكتبي( يحتاج منا إلى تقدير وتشجيع مثلما نفعل مع السكرتير، والناسخ، ورئيس القسم، والمهندس والمبرمج، ومثلما نفعل حين نشيد بمديري العموم، والوكلاء، وغيرهم. ومن البديهي أن التقدير يتم علناً ويعلم به الجميع، وأما اللوم، والمعاتبة، فلا يصح أن تكون أمام الآخرين، وهذا المبدأ يجب أن يطبق على الجميع بصرف النظر عن المستوى الوظيفي. يقول أحد المختصين في الإدارة: أن تقدير الرئيس للمرؤوس هو من أدنى الحوافز في العالم المتحضر.. إن كلمة تقدير مكتوبة، أو عبر الهاتف قد لا تأخذ من وقت الرئيس سوى ثلاثين ثانية، ولكنها بالنسبة للمرؤوس الذي استقبل تلك الكلمة فلن ينساها أبداً وتعزز الجانب الايجابي مستقبلاً لديه. ويقول أصحاب التجربة وهي أكبر برهان إن النجاح بدون إحساس الآخرين بالمشاركة وبدون شعورهم بأنهم جزء من العمل، وأعضاء في الفريق هو نجاح مؤقت، كما أن النجاح إذا لم يعقبه تقدير وتعزيز لكافة المشاركين فيه فانه سيقود إلى نتائج عكسية خلال مدة قد لا تطول!! وفي بيئة العمل تجد من يهتم بالشكليات أكثر من العمل الفعلي المنتج فهذا مدير يصرخ في سكرتيره لأنه كتب خطاباً إلى مسؤول آخر في جهاز آخر وارتكب غلطة لا تغتفر في نظر هذا المدير. ولكن ما هي الغلطة؟ لقد كتب )سعادة( بدلاً من )معالي( وقد اتصل المدير بالمسؤول في الجهاز الآخر يعتذر له، ولكنه تفاجأ برد غير متوقع حيث قال: إن )سعادة( أو )معالي( لن تقدم أو تؤخر بالنسبة لي فأنا موظف كالآخرين ولن أنجح في عملي بهذه الألقاب الصناعية وإنما بالجد والإنتاج وتحسين الأداء من أجل القيام بالمسؤوليات المناطة بي. ومثال آخر ذلك الأكاديمي الذي انفعل وثار واشتكى لأن اسمه ورد في دليل الهاتف بدون حرف )الدال(. إن القضية ليست قضية شكليات فقط وإنما هي قضية تعامل وسلوك إداري واتصال بين الرئيس والمرؤوس وبين الموظفين والمراجع، وبين زملاء العمل. تعال معي نتأمل في السلوك الإداري الذي يحدث أحيانا في بيئة العمل، منها الإيجابي، ومنها السلبي: * يدخل المرؤوس إلى الرئيس، يلقي عليه التحية ولا يسمع من رئيسه رداً عليها. * يدخل المراجع إلى المسؤول يستفسر عن موضوع معين، فيطلب المسؤول سكرتيره، ويوبخه أمام المراجع قائلا: ألم أقل لك إن هذا الموضوع من اختصاص إدارة أخرى، لماذا تسمح لمراجع بالدخول؟ * يحضر المراجع العادي لمقابلة الرئيس العام للجهاز فيستقبله أحسن استقبال ويعطيه من وقته ثم يسير معه مودعاً إلى الباب. * ويحضر مراجع آخر لمقابلة موظف في نفس الجهاز فيتعذب المراجع في سبيل مقابلة هذا الموظف. * ينعقد الاجتماع فيدير رئيس الاجتماع الحوار ليقوده إلى النتيجة التي يريدها دون احترام لآراء المشاركين وملاحظاتهم. * يأمر المدير الموظف بتنفيذ فكرة معينة فيوضح له الموظف أن هذا العمل لا يتفق مع المعايير والضوابط ويصر المدير على تنفيذ الأمر.. تأتي النتائج فيما بعد غير مرضية.. ويدفع الموظف الثمن!! * يدخل المراجع أو زميل العمل إلى المدير بعد أن سمح له بالدخول، ويبدأ الحديث ولكن المدير مشغول عنه بالهاتف، أو بالقراءة، أو الكتابة، ثم تجده يقول بدون نفس )وش عندك( فيعيد المراجع أو الزميل حديثه، وبعد مرور بعض الوقت يقول المدير مرة ثانية )نعم.. وش قلت(. تلك بعض المواقف اليومية التي تحدث في بيئة العمل وقد أوردنا بعضاً منها للاستشهاد والتأكيد على أن الحوار الإنساني، والتواصل بين زملاء العمل، وبينهم وبين المراجعين هو مطلب حضاري تتطلبه واجبات الوظيفة والمسؤول مهما ارتقى في السلم الوظيفي فانه في سلم الإنسانية لا يختلف عن الآخرين، كما أن القدرات والمواهب التي تجتمع لدى شخص معين تظل ناقصة وبحاجة إلى أفكار الآخرين وقدراتهم وإبداعاتهم. وإذا كان بعضنا لا يثق إلا بنفسه ويطبق أفكار تلك النظرية المتطرفة في الإدارة وهي نظرية )x( التي تفترض أن الإنسان لا يحب العمل بطبيعته ولهذا يجب مراقبته، كما انه لا يتحمل المسؤولية ويهمه بالدرجة الأولى الحافز المادي. إن المدير الذي يؤمن بهذه النظرية سوف يمارس نمطاً إدارياً صارماً لا يثق بأحد ويشك في كل شيء ما عدا الأعمال التي يقوم بها بنفسه أو تنسب اليه. وإذا كان هذا هو الجو السائد في بيئة العمل فكيف نتوقع مستوى الرضا الوظيفي ومستوى الإنتاجية، وكيف تكون العلاقات الإنسانية السائدة في هذه البيئة. إن بيئة العمل المنتجة هي البيئة التي يسودها الحوار، واحترام آراء الآخرين، وفتح المجال أمام الجميع للمشاركة، وتقدير الانجازات، واعطاء فرص التطوير والترقي للجميع، ودعم العاملين بالثقة والتشجيع وتوقع أفضل النتائج من أجل استثمار كافة الموارد البشرية المتوفرة. أما قضية التخطيط والتنظيم وتطوير الأداء وتحسين الإجراءات واستخدام التقنية الإدارية، وتوظيف المعلومات توظيفاً إدارياً صحيحاً، فهي أمور أساسية ومطلوبة ولكن إذا وجدت هذه العناصر وتمت ممارستها بشكل جيد مع إنخفاض في مستوى العلاقات الإنسانية وتدني مستوى السلوك الإداري فان كافة عناصر العملية الإدارية تظل ناقصة وضعيفة ما لم تقف على قاعدة صلبة هي العلاقات الإنسانية.