يعقد في المدينةالمنورة ابتداء من يوم غد الاثنين اللقاء التاسع لمديري التعليم في المملكة والمحور الذي تدور حوله النقاشات هو التربية.. وما يواجهها من تحديات معاصرة. .. ويكتسب هذا اللقاء التربوي (التاسع) اهمية خاصة كونه يأتي في ظل التتالي اللافت للتداعيات السلبية بين الطلبة والشباب، فهو بهذه الكيفية التي لم يخترها قطعا، وهذا الهاجس غير المرغوب فيه بطبيعة الحال، يجسد الاحساس العميق بالمسؤولية الملقاة على عاتق المؤسسات التربوية والتعليمية على وجه الخصوص، وتلك التي يسأل عنها المجتمع بكل شرائحه على وجه العموم. .. ومن هذه التداعيات الخطيرة التي فرضت نفسها على الذهنية الحوارية في هذا اللقاء رغما عنها حادث الاعتداء الخطير الذي نفذه ستون طالبا من ثانوية (الثمد) في المنطقة التعليمية (المضيفة) ضد خمسة من معلميهم..! حيث اوسعوهم ضربا ذهب بأحد المعلمين الى العناية المركزة.. وقبلها بيوم واحد فقط، اقدم شابان من وادي الدواسر جنوبي المملكة، على تكتيف والدهما العجوز، والاعتداء عليه بالضرب في غرفة مغلقة، لأنه تزوج على أمهما..! ألا ما اتعس هكذا بنين: فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ألقمه بأطراف البنان أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني أعلمه الفتوة كل وقت فلما طر شاربه جفاني وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني .. ان حوادث كثيرة مثل هذين الحادثين المؤسفين تتكرر كل يوم من الطلاب والطالبات والبنين والبنات، وهو بدون ادنى شك، امر خطير للغاية، ومن ضمن ما يعنيه، ان خللا ما يعمل عمله بيننا ونحن عنه غافلون. .. هناك بالطبع كثير من الافكار التي تتردد حول التربية وأخلاق الناشئة والشباب، ونسمع ونقرأ الكثير الذي يدور حول هذه المسألة، منه ما يتعرض بالنقد الصريح لطرق التعامل مع التلاميذ والطلاب داخل المدرسة، فالبعض ينادي بحماية المعلمين من طلابهم.! وآخرون ينادون بعودة الهيبة للمدرسة، وغيرهم يرى ان المناهج المدرسية تعاني من جملة عيوب، وانها معدة للحقن لا اكثر، وان الطرق التي يعد بها المعلمون والمعلمات قبل التخرج تفتقر الى روح التربية الحقيقية، فكيف يعطي الشيء من هو فاقد له..؟ الى جانب المناداة بتغيير مسمى الوزارة من (وزارة المعارف) الى (وزارة التربية والتعليم) ، لأن الاخير عند المنادين به يوحي بقيمة التربية واهميتها واحقيتها في الاسبقية على التعليم الذي يأتي ثانيا، وهذه وتلك طروحات لا تخلو من موضوعية، وتستحق الدراسة والتحاور، ومجالها اوسع وأرحب وهو ليس هنا بكل تأكيد. .. قبل أكثر من اسبوع دعيت الى حوار مفتوح في تعليم الطائف رعاه مدير التعليم، وشهده مديرو المدارس وبعض القياديين التربويين، وجاء محور التحديات التي تواجه التربية في مقدمة البحث، وعلى الرغم من تعدد وجهات النظر على هذا المستوى التحضيري الجيد في فكرته واخراجه، الا اني لحظت امرين غاية في الأهمية حسب اعتقادي وينتظر من لقاء مديري التعليم في المدينةالمنورة، البحث فيهما وعدم اغفالهما. .. الاول: ان التربية بوصفها عملية متكاملة تتجه بسلوك الفرد نحو خلق بناء قويم، وانسجام فردي ايجابي مع روح الجماعة، في اطر دينية وثقافية واجتماعية تسير المجتمع فهي تبدأ مع الفرد منذ ولادته، وحتى قبل ولادته بعشرين عاما مثل ما يرى كثير من المربين المعاصرين وذلك بتنشئة امة تنشئة صالحة. بل هذا ما نادى به العرب في ثقافتهم العامة حين قال شاعرهم: الأم مدرسة اذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق .. ان المسؤولية هنا مسؤولية شاملة تبدأ من البيت وتعبر الشارع مرورا بكافة الدور والجوار وصولا الى المدرسة، ثم حياة الفرد ما بعد المدرسة واذا كانت مسؤولية المدرسة تتعاظم لانها تأتي في أدق مراحل عمر الفرد الا ان هذه المؤسسة التعليمية (التربوية) تظل شريكا، وليس هي المتفردة في تحمل هذه المسؤولية لان هذه المسؤولية العظيمة، تأتي بتكليف رباني حكيم، يشمل الكل ولا يستثني احدا. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا انفسكم وأهليكم نارا).. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الامام راع مسؤول عن رعيته، والرجل راع ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته. فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». فالتكليف هنا يشمل كافة المكلفين شرعا من أعلى الهرم حتى اسفله فلا يستثني احدا، اما الخطاب التربوي الذي يصدر عن المؤسسات التربوية اليوم، فهو خطاب يكاد يحصر كل العملية بسلبياتها وايجابياتها في المدرسة، وهذه في الحقيقة قسمة ضيزى. لأنها تلقي بالحمل كله على المعلم والكتاب بالدرجة الاولى ، ومع وجوب اعترافنا بضعف الاداء التربوي سواء من المعلم ام من المنهج، فانه من الواجب أيضا، ان ننظر الى العملية التربوية من زاوية اخرى أوسع وأرحب، ترينا مسؤولية الكل وليس المؤسسات التربوية وحدها فالبيت مسؤول والشارع مسؤول ووسائل الاعلام مسؤولة الى جانب المدرسة والمنهج.. يقول دانتون: (بعد لقمة العيش اول حاجة للشعوب هي التربية)، وهذه حقيقة لا تقبل الجدل. الثاني: مسألة القدوة، تلك التي نتكلم عليها كثيرا في ادبياتنا ونحن (ربما) قد فقدنا كثيرا من ملامحها: ان القدوة في غاية الخطورة والاهمية فهي لب التربية ومخ الاخلاق الفاضلة وقد تكون الطامة التي لا تبقي ولا تذر. لأن لزوم السلوك السوي من المعلم ومن الاب، ومن الكبير عموما، يقدم افضل الدروس وانجعها للناشئة والعكس صحيح يقول جوزيف جوبير: (الأولاد بحاجة الى نماذج اكثر منهم الى نقاد).. وعند الانجليز مثل يقرب الصورة اكثر فهم يقولون: (كما يكون الاب يكون الولد).. فكم من ولد شابه اباه وكم من طالب شابه استاذه. .. والواقع ان المعلم الذي يشتم تلاميذه وطلابه او يتعامل معهم بعنف وقسوة ووحشة لا يقدم قدوة تربوية صالحة، وذلك الذي ينهى عن التدخين ويعدد اضراره ومساوءه ويكف عنه في الفصل امتثالا للتعليمات الرسمية ثم يقف على ابواب المدرسة وهو ينفث الدخان، انما يمارس الاحتيال ويضرب اسوأ مثال للكذب والازدواج في الشخصية. بل ماذا يقدم مثله لطلابه..؟ وهل قرأ يوما هذا الدرس المفيد: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك تقبل ان وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم .. اما النصوص المنهجية التي بين أيدينا، فهي في الغالب لا تكشف لهؤلاء المعلمين على نظريات اجدادهم في التربية مثل ما تقدم لهم نظريات الفلاسفة المعاصرين من علماء الغرب، امثال (جون ديوي وباجلي وروباك وكلباتريك) وغيرهم. ولو حاولنا الرجوع الى الثقافة العربية والاسلامية في هذا الشأن لوجدنا من النصوص البناءة ماهو قريب من تكويننا وبيئتنا مثل هذا القول مثلا لعمرو بن عتبة الذي قال لمؤدب اولاده: (ليكن اول اصلاحك لنفسك فان عيوب الطلاب معقودة بك.. فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت، علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه.. ولا تتركهم فيهجروه ثم روهم من الشعر اعفه، ومن الحديث اشرفه، ولا تخرجهم من علم الى علم حتى يحكموه. لأن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم وروهم سير الحكماء ، واخلاق الادباء وجنبهم معاشرة النساء وتهددهم بي، وكن لهم كالطبيب الذي لا يصف الدواء حتى يعرف الداء). .. وهذه الحكم البليغة هي نتاج امة عظيمة، لها تجارب ناجحة في ميدان التربية والتعليم، وكانت تجل المعلمين والمربين وترفع من قدرهم، لأنهم قدوة امناء على الابناء. ولذلك قال العرب في امثالهم: (لولا المربي ما عرفت ربي)..! .. كما ان الاب الذي يدخل المدرسة فيشتم المعلمين ويحاول الاعتداء عليهم امام ابنائه وامام الطلاب لا يعطي المثل المطلوب من ولي الامر القدوة، المطلوب منه، المساعدة في انجاح برامج المدرسة ومناشطها التربوية المختلفة فهكذا يصدق معه قول الشاعر: وينشأ ناشىء الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وقول الآخر: اذا كان رب البيت بالطبل قارعا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص .. وهناك تداخلات كثيرة ومعقدة في هذه القضية تشكل ما يشبه عش العنكبوت في التعامل مع الناشئة يشترك فيها الكل، فلا البيت ولا المدرسة استطاعا الوصول الى حلول مرضية لعلاج الظواهر السلوكية الشاذة بين البيت والمدرسة ولا المجتمع بكله استطاع التوصل الى الصورة التي يريدها في تركيبته وبنيته الشابة التي تشكل من مجموعه نسبة تصل الى 60%. .. ثم تظل التربية وشجونها الشغل الشاغل الأكثر قلقا في هذا العصر، بعد ان تعددت المشارب والموارد الثقافية واصبح القابض على اخلاقه الحسنة في هذا الزمان كالقابض على الجمر..! [email protected] Fax: 02 7361552