في البدء عزف منفرد على وتر المسافات يذرف ألحان القلق والتوتر ويشكل جوا كئيبا مسكونا بالأسى والمرارة.. ولا غرو فقد سئمت القيثارة اسطوانات البكاء وملت الآذان إيقاعات النداء.. عذراً لهذا الاستهلال الوجداني الغارق في بحيرة الشكوى.. لكنها مشاعر متوهجة أثارتها معاناة معلمات المدارس النائية اللواتي مازلن يأملن من الرئاسة ان تتحرك لوقف نزيف الطرقات.. وقد سبق ان كتبت هذا العنوان في مقال صوّرت فيه تلك المعاناة طارحاً بعض الحلول التي ربما عالجت المشكلة شأني شأن بعض الاخوة الكرام الذين ما فتئوا يطرحون آراءهم في هذا الموضوع المؤرق لفئة من معلمات وطننا المعطاء ويفتشون عن الحلول الناجعة، فالكل يعيش مشكلتهن إلا الرئاسة التي تكتفي بإرسال خطابات مواساة للمنكوبات وحث المصابات على سرعة الرجوع للعمل!! حقا إنها المشاركة الوجدانية من رئاسة تعليم البنات لمعلمات مثقلات بالآلام والانكسار!! واسمحوا لي أن أغير في العنوان ليكون "وقفة ثانية لمعلمات المناطق النائية" لأنه كما يبدو ليس للحنان موقع في قاموس الرئاسة الموقر المليء بمفردات النظام المدرسي الصارم والمترهل بآثار الروتين العتيق!! ذلك أن الرئاسة ظلت تعشق الركود وتأنس بالجمود عبر إطارات إدارية مثقلة بالنظامية الحادة ليطغى صوت النظام وتهيمن لهجة الدوام ..ولقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن..! ويظل التساؤل مراً: ماذا قدمت الرئاسة لمعلمات تلك المدارس البعيدة في ظل صلاحياتها؟ وتأتي الاجابة سلبية بالطبع!! إذ لا علاقة للرئاسة بذلك لأن أولئك المعلمات ذهبن برغبتهن فقد وافقن منذ البداية ولن تبقى تلك المدارس النائية بدون معلمات!! وبالتالي فالمسؤولية خارج نطاق الرئاسة ! آه يا للتعاسة!! وبعيدا عن دوائر الصخب ومواقع الضجيج وتحت ظلال الصبر المسكون بالبذل والعطاء تأتي (معلمة المدرسة النائية) لتمارس دورها التربوي وتقف بشموخ فوق أرضية التدريس تحمل مشاعر متدفقة تختلط فيها دوائر الألم والأمل وتواصل المشوار على مضض غير آبهة بالتضحيات وعلى ضفاف التوجس تقف أمام مقاطع عشق قديم.. أعني عشق المسافات.. وآه من خريطة الطريق ومن مصاعب تعيق.. وتظل واقعة تذرع مساحات الهواجس وقد استبدت بها مشاعر التوتروسيطرت عليها تيارات القلق والحيرة.. لتظل (المعلمة الصامتة) التي لم تزل تنتظر ان يفتح لها باب يخفف حدة الموقف ويمتص لظى المعاناة التي تنسجها المسافات! في مشهد موسمي معتاد مليء بالتراجيديا.. مضت تراقب فلول الأحاديث التي أثيرت حولها تنصت لأصداء النقاش وترنو لوقع خطى الاقتراحات..ولكن ليس ثمة حل مبهج يختصر دوائر الاجهاد أو يقدم حلولا تطبق.. نعم النتيجة لا جديد سوى ثرثرة فوق بساط الحوار والختام. لم ينجح أحد!! وظلت الرئاسة تتفرج وتكتفي برصد حوادث المعلمات وكأن الأمر لا يعنيها!! وما أشبه الليلة بالبارحة!! مآسي تتكرر وأسر تتضرر.. نعم لقد تنوعت أبعاد المعاناة لدى تلك الشريحة من المعلمات وتعدد ملامح القلق على جبين ينضح بهموم المهنة وبمسؤوليات العمل المدرسي المتراكمة التي يفرضها واقع التدريس. ولم تزل (تلك المعلمة الصابرة) تقتات خيوط الصمت والاحتساب وترنو للأفق بحثا عن وميض أمل أو بريق حل أو ملامح خلاص. ومضت تقطع المسافات الطويلة تجتاز الدروب الصعبة.. عبر مشوار يومي محفوف بالقلق والتوتر والضغط النفسي الحاد.. في رحلة شاقة تعكس ما يؤديه أصحاب الرسالة من دور عظيم في بناء العقول ورعاية فلذات الأكباد. وكان يمكن لرئاسة تعليم البنات أن تخفف عن معلمات المدارس النائية وتمنحهن "خصوصية" عبر طابع استثنائي مصحوب بالحوافز التي تشجع المعلمة على الانتظام وأداء العمل تحت سقف الاستقرار النفسي فلا تضطر للغياب. أجل كان بإمكان الرئاسة صياغة حلول وتطبيق أفكار تتجلى كوثيقة خاصة في العمل من ذلك: 1- اختزال الجدول المدرسي الأسبوعي للمعلمة بحيث تستكمل نصابها من الحصص في يومين على الأقل أو ثلاثة على الأكثر بالتنسيق فيما بين المعلمات.. مما يخفف أيضا ضغط الطرق.. 2- إيجاد حوافز في النقل لمن تنتظم في العمل المدرسي خلال العام الدراسي ومنحها نقلا مغريا وهذا يحفظ حقها ويميزها عن غير المنتظمة. 3- اختصار الحصص بحيث تخرج مبكرا مع تأخير بدء اليوم الدراسي تجنبا لوقت الذروة ذهابا وإيابا. 4- تحسين وضع إجازة معلمة المدرسة النائية.. وبدون شك على المجتمع بدءا بالرئاسة الوقوف معها وقوفا فعليا لا مخاطبتها بلغة الأنظمة واللوائح وبخاصة وأن جزءا كبيرا من مرتبها يذهب أجرة للنقل الذي يستنزف طاقتها. هي سئمت الانتظار وقد وجدت نفسها بين قوسين.. أو أمرين أحلاهما مر : إما رفض العمل في المدرسة النائية أو الالتحاق به والصبر على مرارته ومكابدة المشوار اليومي.. تنتظم تارة. وتنقطع تارات أخرى.. آه.. صبرا معشر المعلمات.. فلا وقت للبكاء.. فالصبر خير عزاء.. منذ متى وأنتن تستمطرن الرئاسة .. ولا مجيب سوى تبريرات معلبة.. وتعاميم جاهزة.. وأعود وأقول: ارحموا المعلمات من عناء المسافات.. وقدموا لهن مشاركة جادة تؤكد ان لهن موقعا في خريطة المعرفة.. أو لم تروا بذور التربية قد شمخت في أيديهن التي تلونت بآثار العطاء.. ولم تزل معلمة المدرسة النائية تفتش عن حلول صريحة تعالج مشاعرها الجريحة.. عفوا هن معلمات تحت مظلة المعاناة.. وكل واحدة ترفع عقيرتها بالشكوى.. بحثا عن آفاق ندية.. وفضاءات طرية. ولم تزل تتشكل سحب الأمل.. ومن يدري فلربما أمطرت ذات مساء.