للإسلام رجال يرفعون رايته ويذودون عن حياضه. يتألمون مع شعوبهم التي تتألم.. ويقاومون ريح الظلم مهما عتت.. ويغادرون الحياة الفانية لا يورثون دينارا ولا درهما وإنما يورثون العلم والجهاد رغم أنف العدو. ومن هؤلاء الرحالة التتري عبد الرشيد إبراهيم الذي يقول: بسبب فطرتي التي فطرت عليها وطبيعتي التي نشأت عليها سلكت مسلك خدمة هذه الحياة الإسلامية التي هي حياة أمتي، وقاسى القلب أنواعا من الآلام في سبيل ذلك. وقدمت أهلي وعيالي فداءً، وكلما وجدت أي مسعى مناسب ضد أعداء الدين الإسلامي المبين، لم أقصر في التعلق بأسبابه. وكانت البداية الحقة في رحلة الجهاد والكفاح من أرض الحجاز المباركة، وفي رحاب مكةالمكرمة، حين التقى عبد الرشيد عام 1871م في هذه البقعة المقدسة بالمجاهد الكبير الإمام شامل. كان عبد الرشيد شابا يافعا في الحادية والعشرين من عمره، بينما يعيش الإمام شامل أيامه الأخيرة «توفي في نفس العام». فراح المجاهد الكبير يحكي عن كفاحه ضد الروس وعن ذكرياته مع المسلمين في جبال القوقاز، مما أثر تأثيرا عميقا في نفس عبد الرشيد وزرع في أعماقه روح الجسارة والمقاومة. بطبيعة الحال، كان عبد الرشيد يدرك معاناة المسلمين في القوقاز.. وفي مجاهل سيبيريا.. لكنه لا يستطيع ان يقاتل روسيا بالسلاح كما يفعل الإمام شامل ورجاله. ربما لأنه ليس جبليا ولأنه لا يملك سيفا يقاتل به. انه رحالة شاب تفقه في الدين وسافر من بلدته تارا فى سيبيريا الى استانبول والحجاز بحثا عن العلم والمعرفة. اختار عبد الرشيد ان يجاهد بسلاح الكلمة وهذا أضعف الإيمان، فعاد الى وطنه يتأمل أحوال المسلمين الذين يعيشون غرباء في بلادهم وديارهم، يعانون الفقر والجهل داخل حدود روسيا القيصرية، فراح يتجول بين أهله لتسهيل حياتهم الدينية، كما عمل على تجميعهم على كلمة سواء وحاول ربطهم بالدولة العثمانية بوسائل متعددة. فمثلا ساهم في تأسيس هيئة من الأعراق التركية المختلفة تهدف الى تأسيس وحدة في اللغة والثقافة، فأعد الأبحاث والبرامج والتقى بكبار الشخصيات الإسلامية أمثال نامق كمال وأحمد وفيق باشا وجمال الدين الأفغاني. كما أصدر جريدة )لواء الحمد( التي كان يطبعها على حجر في استانبول ثم يحملها الى روسيا بالزنابيل، ومن خلالها يشجع المسلمين على الهجرة الى تركيا، ونتيجة لجهوده ترك «000.70» تركي ديارهم وهاجروا من سيبيريا الى تركيا وان اضطر بعضهم للعودة من على الحدود. ونظراً لاكتسابه ثقة التشكيلات المختلفة لمسلمي عموم روسيا عُين قاضيا رسميا وعُرف بالقاضي الرشيد. وفي عام 1787م انشأت كاترينا الثانية قيصر روسيا محكمة شرعية في أورنبورج لكي تتظاهر بأنها تنظر الى المسلمين نظرة طيبة. والحقيقة أنها عينت الجهلاء وغير الأكفاء على رأس هذه المحكمة كي يفتر حماس المسلمين ويزداد جهلهم بأمور دينهم. وعندما عُيّن عبد الرشيد رئيسا لها لعدة أشهر أدرك حقيقة هذه المحكمة، وأنها آلة في يد الحكومة القيصرية وفخ لتضليل المسلمين، وعلى الفور تخلص من إسار الوظيفة الرسمية ورحل الى استانبول ليكتب كتابا عن أحوال المسلمين في روسيا وعن أهمية إصلاح محكمة أورنبورج ونجح في توزيع الكتاب سراً بين مسلمي روسيا. ولم يمكث طويلا في استانبول، إذ تاقت نفسه الى الرحيل نحو ديار المسلمين يشاطرهم الآلام ويقف على الأحوال، فمر بمصر وفلسطين والحجاز ثم سافر إلى أوروبا حيث زار مسلمي الصرب وبلغاريا وبعض البلدان الأخرى. وبعد غياب سنوات ثلاث عاد إلى دياره مستفيدا من وجود حياة نيابية في روسيا القيصرية عام 1905م. على مدار عامين ساهم عبد الرشيد في إقامة ثلاثة مؤتمرات لتوحيد جهود المسلمين الذين يبلغون 20% من جملة السكان، لعلهم يصبحون قوة سياسية وكتلة ضاربة في الإدارة الفيدرالية. وساهم مع خمسة عشر شخصا آخرين من زعماء المسلمين في إعداد برنامج لحل المشاكل الدينية والسياسية والاجتماعية. وهو برنامج مكون من 72 مادة، لكن الحكومة الروسية بكل أسف ألقته وراء ظهرها غير مبالية!. لم ييأس عبد الرشيد؛ لأن سلاح الكلمة لا يصدأ ولا يفقد التأثير أبداً. عاد مرة أخرى الى المقاومة بالكلمة فأصدر جريدة )الألفة(، كما أصدر في بطرسبورج مجلة )التلميذ(، ونجح في إسماع أصوات المسلمين، لكن روسيا القيصرية عادت الى مصادرة الحريات وأغلقت المطبعة والجريدة. هكذا انتهت تلك الجولة بين عبد الرشيد والحكومة القيصرية، ولكي يداري حزنه ويأسه «المؤقت» قرر ان يسافر الى بلاد المسلمين أينما كانت: «فضلت أن أقوم بسياحة طويلة هذه المرة امتثالا للأمر القرآني الشريف: )سيروا في الأرض فانظروا...( ولم يكن أمامي قائد او ورائي سائق.. إلا أنني حزمت أمري.. وأخذت بيدي عصا التوكل.. وجريا وراء الآمال المقدسة إعلاءً لكلمة الله بنيّة خالصة وترويجاً لفكرة الاعتصام بحبل الله، تركت أهلي وعيالي وأطفالي الأعزاء وديعة لله. ثم خرجت الى الطريق وأنا أقول: يا الله». كان مشهد الرحيل عن الأولاد مؤثرا. فبعد أن أعد نفسه للسفر الطويل ودفع إيجار البيت. لم يجد المال اللازم للخروج فاقترض عشرين روبلاً من أحد الأصدقاء وكان مصمما على الخروج مباشرة قبل ظهور اي مانع. ووصف وداعه لأبنائه قائلا: كانوا حزانى وهو ينظرون الى عيني . وأثناء ذلك قال لي «أحمد» بصوت حزين باك وكأنما أحس بشيء: والدي العزيز!.. وأراد أن يعطيني النقود التي في يده. كانت عيونه مليئة بالدموع . لقد أظلمت عيناي أنا بالذات. فلم أستطع ان أعرف مقدار النقود. ثم قلت: أي بني، اهتمَّ بأختيك البريئتين. ولم تبق لديَّ طاقة لكي أقول كلمة أخرى.. الجميع كانوا يبكون في ذلك اليوم.. ونادت بنتي قدرية على سائق العربة.. وعندما شرعت في ركوب العربة قالت بنتي قدرية: يلزمني أربعة روبلات يا أبي. فأعطيتها أربعة روبلات من العشرين روبلا التي اقترضتها للسفر. كنت أتصور الى أين أنا ذاهب ولماذا أنا ذاهب.. إلا أنه لم يكن معروفا أنني سأعود مرة أخرى أم لا.. كنت أخرج من الباب كأنما تخرج جنازة حية»!. مرة أخرى يواصل عبد الرشيد رحلاته بحثا عن المسلمين أينما كانوا.. يلتمس عون القادرين ويواسي جراح المستضعفين.. يسير جوالا غريبا في بلاد سيبيريا ومنغوليا ومنشوريا والصين واليابان ما بين عامي «1907 1910م» . مرَّ عبدالرشيد إبراهيم ببلاد كثيرة يعيش بها المسلمون كأقلية مطحونة ومواطنين من الدرجة الثانية، فكان يستمع الى المشاكل ويبحث عن العلاج قدر طاقته، كما زار العديد من المدارس فامتحن الطلاب وقوّموا المناهج وامتحن المعلمين أيضاً. وكان يقول: هذه هي وظيفتي ومهمتي في كل مكان.. وحينما زار تركستان ولم يجد بها مدرسة واحدة تعلم الإسلام قال: الشيء المحير والمحزن حقا، هو أنه لا توجد مدرسة واحدة. وبسبب خوف المسلمين من المبشرين، فإنهم لا يستطيعون ان يرسلوا أبناءهم الى المدارس الروسية وبهذا الشكل وقع كل مسلمي تركستان في بحار الجهالة.. وابتلوا بفساد الأخلاق والمسكرات. وكلما رأى الانسان هذه البلاد. فإنه يقول عادة: إن أمة تركستان أمة محكوم عليها بالموت!! وعندما شاهد بعينيه آثار سمرقند الإسلامية وقد نُهبت وهُدمت، قال بأسلوب لاذع وساخر: «يا للأسف، لقد هدمت تلك النماذج الأثرية العتيقة بكاملها في ظل حضارة القرن العشرين! وسرقت تلك الحجارة المنحوتة بطريقة فنية واحدا فواحدا من قبل الأوروبيين الذين يأتون لزيارة سمرقند على الدوام. وهناك ما يدعو للحيرة أيضا، وهو أن المسلمين «المتوحشين» هم الذين أقاموا تلك المباني، ثم قام الأوروبيون «المتحضرون» بهدمها!!. عاد عبد الرشيد الى بلاده حزينا، وفور علمه باحتلال إيطاليا لطرابلس الغرب عام 1911م اتجه الى هناك وأخذ يوزع فتاوى الجهاد على الناس ويحرضهم على قتال المحتل. وإبان الحرب العالمية الأولى شارك في حرب «صاربقامش» بعد ان احتلها الروس، كما سافر الى ألمانيا لوعظ وإرشاد الأسرى المسلمين الذين أسرتهم دول المحور. وعقب قيام الثورة البلشفية بذل جهودا مضنية ليؤجج المسلمين كي يظل حماسهم دافقا ضد الهلال الأحمر. وكانت محطة النهاية.. مرة أخرى يزور مكةالمكرمة في بداية عقد الثلاثينيات، وفي الرحاب الطاهرة يلتقي بممثلي الجمعية الهندية الإسلامية وببعض المسلمين القادمين من اليابان، ويقرر أن تكون اليابان موطن الاستقرار ونقطة الانطلاق لتوحيد المسلمين في الشرق الأقصى ، وبالفعل نجح في تأسيس جامع طوكيو عام 1937م، واعترفت اليابان رسميا بالدين الاسلامي، وظل عبد الرشيد في جامع طوكيو يقف على منبره لا ليعظ وإنما ليخبر المسلمين بأحوال المسلمين هنا وهناك. وبعد حياة حافلة بالجهاد والكفاح رحل عبد الرشيد إبراهيم بعد ان عاش أربعة وتسعين عاما، أي ما يقرب من مائة عام قضاها غريبا عن أهله ودياره لأنه اتخذ الإسلام وطنا، وحرصت الإذاعة اليابانية ان تنعى الى المسلمين وفاة هذا المجاهد الكبير الذي قضى نحبه دون ان يحيد عن مبدئه: «ألزمت نفسي فكريا بخدمة وطني وديني وعانى القلب من كل البلايا.. وتحملت المشقة طيلة العمر وأنا أقول: الأمة.. الأمة.. ولا زلت أقول وسوف أظل أقول: ديني هو الإسلام وأمتي أيضا هي الإسلام». شريف صالح