ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب، صدر كتاب بعنوان"شيخوخة الخليل - بحثاً عن شكل لقصيدة النثر العربية"للناقد محمد الصالحي. ويأتي الكتاب ضمن محاولات تأسيسية عدة تستهدف ايجاد إطار تنظيري وبالتالي شكل لقصيدة النثر. على أن أهم ما تتسم به تلك المحاولات انها تدور حول القصيدة من الخارج، ولم تنفذ بعد الى عمق النصوص، لتكتشف ان هناك عناصر تحدد ماهية القصيدة الجديدة، وبالتالي تمنحها مشروعية الوجود من خلال شرعية التحقق. فلقد تبلور شكل القصيدة، حتى استقر منذ سنوات عدة، ولا يحتاج الأمر سوى الى خيط"ايريادني"لكي يتم العثور على الشكل من خلال ثنائية الغياب/ الحضور التي تراوغ النص النقدي. وفي البداية، يتخذ المؤلف موقفاً مناوئاً من الثنائيات المتناقضة التي طرحتها سوزان برنار، إذ يرى أن قصيدة النثر إما أن تكون شعراً أو لا تكون. وهي ليست مخيرة بين الفوضى والتنظيم، وبين الهدم والبناء، وبين اللغة واللالغة. إذ لا مناص لها من التنظيم والبناء واللغة، أي من قانون يسري عليها. وهي وإن كانت حرة، فإن حريتها لا تختلف في شيء عن الحرية التي ينهض عليها النص الادبي كيفما كان. من هنا، تتحول اللاقاعدة التي اريد لقصيدة النثر أن توسم بها الى قاعدة. أي أن الأحكام الجزافية والتنظيرات الرعناء التي رافقتها، كانت تعبيراً عن قلق اكثر مما هي تعبير عن خصائص. شكل النص الشعري ليس هو هيئته على الورق، وإنما الطريقة التي يفرض علينا ايقاعه ان نقرأه بها. لقد كان هناك نوع من العناد في طبيعة الخطاب النقدي الموازي، والذي ظهر اصلاً مع مجلة"شعر"، وهو خطاب سجالي / تبشيري، يرى في السابق عليه من الشعر تكراراً ورتابة لا غير، ويرى في الذي يدعو اليه خلاصاً للشعر وللذات معاً. المتأمل للإنتاج الشعري الذي رافق هذا الخطاب سيلاحظ المسافة بين المأمول والمنجز. ويسهل على الإنسان - هنا - أن يستشف كون القبول الذي تلقاه الأشكال الجديرة، من طرف قلة تعرف كيف ترفع صوتها عالياً، ليس قبولاً شعرياً جمالياً بالضرورة، بل هو قبول آتٍ من الرفض الذي ترمز إليه هذه الأشكال. وعلى ذلك، يفرق المؤلف بين أنموذج قصيدة النثر العربية وقصيدة النثر الفرنسية، التي كانت مثالاً يحتذى عند جماعة"شعر"، إذ يرى أنه لا يجمع بينهما سوى الاصطلاح الواحد، أو النوع الأدبي الواحد. لكن ما أعظم الفروق الشعرية بينهما، وما أكثر التباينات الفنية وأعمقها. إنهما تفترقان بخواص ومزايا يفرضها - بدئياً - فارق اللغة والعمل اللغوي، والكلام هنا لأدونيس. بعبارة اخرى ان كان الاختلاف حتمياً ضمن المعنى الواحد عندما ينتقل من صورة الى صورة، فكيف لا يكون هذا الاختلاف حتمياً بين قصيدة نثر عربية وأخرى بلغة مختلفة، خصوصاً أنه ليس بينهما أي صورة مشتركة، أو أي معنى"مشترك"؟ ثم يستطرد أدونيس:"ولئن صح منطق القائلين بأن قصيدة النثر العربية انتحال أو سرقة، فلن يكون عند العرب - اليوم - في مختلف المجالات إلا المسروق أو المنتحل". وهذا التصور يؤدي الى نقطة جديدة، حيث يرى المؤلف أن مواصفات قصيدة النثر عند سوزان برنار الكثافة - التوهج - المجانية غير علمية، وتكمن لا علمية تلك المواصفات / الشروط في كونها غير مرتبطة بشعرية النص بالضرورة. ويعزز هذا الادعاء أن جل ما كتب تحت يافطة"قصيدة النثر العربية"، خصوصاً في البدايات الاولى، مجرد"هلوسات"تحتمي بفوضويتها وثوريتها، في ما هي خالية تماماً من أي نفحة شعرية، متذرعة في ذلك كونها سيريالية أو عبثية أو دادائية، تختار الكتابة الآلية وسيلة، إذ انهالت على الساحة الادبية العربية أدبيات الحركات الثورية العالمية، وطفا على السطح مفهوم للشعر يرى في العملية كلها رفضاً للعالم وقيمه. ومن خلال مفهوم الثورة والرفض، كانت الثورة على القديم تأتي دوماً من الاحساس كون المؤسسة البيت التقليدي هنا وكذا السطر التفعيلي لم تعد ملائمة للبت في مشكلات اوجدها مناخ جديد، ومن أن سوء الأداء يستلزم البحث عن بديل اسلم، يتولد عنه عصيان، عادة ما يكون عنيفاً. ثم يستشهد المؤلف بأدونيس الذي يرى أن المجتمع العربي، الذي افرز مؤسساته القيمية، ما زال يراوح مكانه اجتماعياً وثقافياً، ولم يزده الاستعمار الغربي والصدمة الحضارية الناتجة منه، إلا نكوصاً وارتداداً الى ذاته وماضيه. فهو لم يبرح بعد لحظة الخطابة والتوصيل الشفاهي الى مرحلة الكتابة، بما ترمز اليه من اعتماد التقنية أداة في تفعيل التواصل الادبي، والشعري خصوصاً، ومن حرية فردية في التلقي والتأويل. ويشير المؤلف الى أن النص الشعري ينهض على بعدين: بعد واضح، وبعد خفي، يتمثل البعد الواضح في الترصيف اللغوي للنص ومكوناته النحوية والصرفية والتركيبية، ومستوياته البلاغية والجمالية، في حين يتكون البعد الخفي من الخارج النصي، الذي يختلف قليلاً او كثيراً من قارئ الى قارئ، ومن مرحلة الى اخرى. وهناك دراسات كثيرة للقبض على هذا البعد الخفي، لفض العلامات الدالة على غنى العملية الاحالية للدلالية الشعرية، وارتباطها الايقاعي بلغة النص وتشكلاته الصوتية والمعنوية. فالأداة في الشعر واحدة: اي اللغة، لكن الدلالة متعددة لتعدد الخارج النصي. ويصل المؤلف الى أن الخلط بين النثر والكلام العادي، واعتبارهما نقيضاً للشعر، جعل الشعر تاريخياً يأخذ معناه من شكله الخارجي، أكثر من دلالته وإيقاعه، فضاعت الحدود بين ما هو شعري وما هو غير شعري، ولأن الشعر يطلق على النثر، والنثر يطلق على ما ليس شعراً، فإن النثر ظل مجهولاً كبنية وكإيقاع، ومن هنا، تعددت احكام القيمة التي ترمي النثر باللاإيقاعية، فيوضع كل ما يشتبه في شعريته - باطمئنان - في خانة النثر. وزاد من ترسيخ هذه النظرة الى كل من الجنسين احتفاظ الشعر بتقاليد تحتم على المتعامل معه استحضارها اثناء التحليل، في حين بقي النثر بلا تقاليد. هذه الثنائية الصارمة شعر/ نثر جعلت من الشعر مونولوجاً، ومن النثر مادة للحوار، من الشعر عالماً معتماً وضاجاً بالخبايا واللامنطق، ومن النثر خطاباً واضحاً ومنطقياً. ونخلص من هذا الى ان قارئ النثر حر في ان يتوقف انّى. النثر تعاقب، متسلسل، بطبيعة اخبارية برهانية، اي بأهداف آنية، في حين ان الشعر دائري، مغلق، لا زمني، وبالتالي لا تعاقبي، يكتفي بعالمه، بخبر بنيته الصوتية قبل الدلالية. الشعر اقتصاد، عكس النثر الذي هو فضفضة: شرح وتفسير. الشعر ايجاز وتلميح، والنثر توسعة وتفصيل، يسير النثر نحو حتفه، اي يصير خبراً فيزول، لأنه لا يمس إلا اليومي / الآني المباشر، وهو يسعى الى التطابق والتوافق، في حين أن الشعر غاية في ذاته. ثم يستعرض المؤلف آراء اقطاب المدرسة الشكلانية حول الخطاب الشعري، فهو يقرر ان ادراك الكلمة الشعرية بوصفها كذلك، لا بوصفها إحالة ، وهو ما يعتبره الشكلانيون تجلياً للشاعرية، لم يكن ليتم لولا تشاكل النص وانسجامه ودوريته ودلالته أي ايقاعه. فالايقاع ما جعل هو الكلمة / الكلمات تبدو ذات استقلالية. ما يبدو استقلالية انما اوجبته الطريقة المخصوصة التي يعيد بها الايقاع الشعري ترتيب العلائق بين الصوت والمعنى، وبالتالي بين النص ومرجعه. ان الشكلانيين يرون ان اللغة التي لا تميل الى خارج ابداً، والمتمحورة حول نفسها فقط، اي حول اصواتها وأحرفها، رافضة - بذلك - المعنى، هي اللغة الشعرية، ولكن القول برفض المعنى معناه غياب المعنى، وغياب المعنى يؤدي - عادة - الى غياب التواصل، اي السقوط في حضن الدال الخاص، وشعر الاصوات والاحرف من غير كلمات، اي السقوط في اللالغة. وفي رأي شلوفسكي ترتبط العلاقة بالواقع المباشر، في شكل يجعل المتلقي يفهم حتى دلالة الجمل الناقصة، ويدرك ما لا ينطق من شلوفسكي ان اللغة الشعرية تلجأ الى الابهام في الشكل حتى تطيل ما أمكن مدة التلقي، فتكتسب الاشياء بذلك خصوصية، وتثير انتباه المتلقي اليها. ويستشف من هذا الكلام حصر رسالة اللغة الشعرية في خرق نظام اللغة اليومية لا غير، من دون مساءلة النص وكيفية نمو الدلالة فيه، اي من دون تحديد لعبته الايقاعية، في شكل يبدو معه الشعر رقصاً، وما عداه مشياً. على أن اهم ما تناوله الشكلانيون هو مفهومهم عن الايقاع، والذي اعتبروه العنصر المهيمن الذي يمنح الشعر وظيفته. يرى جاكوبسون ان العنصر المهيمن هو نورة تتمحور من حولها - وتنشد اليها - كل مكونات النص، صوتياً ودلالياً، وهو بذلك - اي العنصر المهيمن - وبناء على مركزيته وقوته، يمتلك قوة التأثير في المكونات الاخرى وتغييرها، وضمان تشاكلها، والعنصر المهيمن - بحسب الشكلانيين - هو ما يمنح اللغة الشعرية طبيعتها، أي إمكان ان تكون كذلك: لغة شعرية ذات شكل يميزها كشعر. وطبقاً للتصور السابق، يبدو من اللائق القول إن الايقاع، باعتباره اهم ملمح في القصيدة"والقوة المغناطيسية"للشعر بحسب تعريف ماياكوفسكي، هو موزون خطي النص، ومانح هويته. يسعف الايقاع في تحليل النص الشعري تحليلاً عملياً يقارب مكوناته الظاهرة والخفية، ويحدد الرابط الدقيق بين هذه المكونات التي كانت متنافرة قبل ولوجها عالم النص، ومنحها الايقاع تشاكلاً وانسجاماً. ويصل المؤلف الى أن القصيدة الشعرية تنهض على دعائم نثرية، كما ان النثر ينهض بدوره على دعائم شعرية. يكون النثر في تلك ارضية لإقامة جسر الشعر، ويكون الشعر في هذا ارضية لاقامة جسر النثر، فالجسر الشعري لا يبنى إلا فوق ارضية نثرية، فقد تصادفنا في النص مقومات وركائز نثرية، مقاطع سردية - وصف - كلام - تحليلات ... يستشهد المؤلف بدومينيك كومب التي ترى ان هناك نوعاً من التداخل بين النصين، يجعل من التراسل بينهما امراً ممكناً، على أن رهان النص الشعري، والذي يفصل بينه وبين النثر، هو ان يكون شعراً: بدلالته وايقاعه، لا بوزنه او عروضه. فمهمة الشاعر - كما يحدد ميشونيك - هي ان يكون قوياً بإيقاعه اولاً، وان المأمول من النص الشعري هو ان نصل فيه الى الايقاع من طريق الخطاب، والى الخطاب من طريق الايقاع: ليس الايقاع عنصراً موازياً، داخلياً، خفياً بين الكلمات، لكنه الخطاب نفسه، فالايقاع هو مجموع المكونات داخل الخطاب، من الكلمة والجملة حتى المقاطع السردية.