أكتب الجزء الثاني من مقالي هذا في اليوم الذي يجتمع فيه أكثر من 37 مدير مكتب عمل في المملكة، والهم الذي يؤرقهم في هذا الاجتماع هو مثل ما جاء في الخبر المنشور في الصحف «بحث الصعوبات والعوائق التي تواجه توظيف المواطنين من طالبي العمل، وسبل رفع نسبة السعودة لدى منشآت القطاع الخاص..»!. وفي تصريح رأيته لوكيل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لشؤون العمل أحمد بن عبد الرحمن المنصور تعليقا على هذا الاجتماع ان وزارته تطمح في «اقتراحات وآراء وتوصيات يمكن تطبيقها للحد من الصعوبات التي قد تواجه المكاتب في تطبيق النظام والتعليمات وتحسين وتطوير الخدمات المقدمة منها..»!. وبما أن هذا المقال يذهب الى المطابع قبل انتهاء أعمال الاجتماع المذكور فانه لا سبيل لمعرفة ما نتج عنه من «اقتراحات وآراء وتوصيات» مؤملة فيه من كبار المسؤولين في الوزارة إلا بعد النشر ولو ان النتائج معروفة مسبقاً فهي تقرأ من مستوى التمثيل في اللقاء ومن العناصر المشاركة فيه، فالبحث كله يدور حول إجراءات إدارية بحتة تتناول أنظمة وتعاميم مطلوب من مكاتب العمل تنفيذها، أما «الاقتراحات والآراء والتوصيات» التي قد يتمخض عنها مثل هذا الاجتماع فإنها لن تعالج ما يواجه سير قطار السعودة من عثرات ومعوقات كثيرة يأتي في مقدمتها المستوى المهني والإنتاجي لطالبي العمل والثقة المهزوزة بين طالب العمل «الوطني» والقطاع الخاص ومنها التقليد السلوكي المهني غير المناسب الذي يعيشه المجتمع السعودي بصفة خاصة نتيجة تراكمات من الماضي والحاضر معا ومن مظاهره عيبية بعض المهن في نظر البعض والخجل من ممارستها وطفرة السبعينيات الميلادية التي وسعت من الهوة بين حاجة الوظيفة للموظف وحاجة الموظف للوظيفة. ان مثل هذا الاجتماع الذي ترعاه وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لعدد كبير من قيادييها التنفيذيين في المناطق يوحي وكأن كل شيء تمام...! بدليل «قد» التي تفيد الاحتمال..! وأن قضيتنا الرئيسة هي في الإجراءات الإدارية البحتة في حين ان برامج الإعداد والتدريب بشقيه المهني والفني التي تشرف عليها الوزارة منذ سنوات عدة تحتاج الى وقفة والى إعادة نظر فاحصة على ضوء النتائج الميدانية، فالمدارس والمعاهد الفنية والمهنية التي صرفت عليها الدولة مليارات الريالات لم تحقق لنا أية نسبة يعتد بها في الأعمال المهنية بدليل.. ان خريجي هذه المدارس يتسللون الى وظائف حكومية صغيرة هرباً من لبس «السروال والبرنيطة» ومن «توسيخ» ايديهم بالزيوت والشحوم وان يراهم الناس على هذا المنظر العجيب والمعيب..! ماذا قدمت المعاهد الفنية والمدارس المهنية والكليات التقنية حتى اليوم..؟! هذا ما كان ينبغي الاجتماع من أجله وبحثه بكل أمانة واخلاص وجدية على أعلى مستوى ابتداء بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية وليس انتهاء بوزارة المعارف وغيرها من الجهات، فالقضية ليست قضية أوراق تدار وعمليات تفتيش وتتبع للشركات والمصانع في القطاع الخاص ولكنها قضية ترتبط في الأساس بمستوى ما نهيئ نحن للسوق من كفاءات وطنية تتوفر على إعداد مهني جيد وإعداد نفسي جاد.. إذ كيف نصل الى كفاءات وطنية مؤهلة ومدربة ومتحررة من عيب «الصنعة» والفصول الدراسية في المعاهد والمدارس والكليات الفنية والمهنية ما زالت تستقبل طلابها وهم بثياب بيض براقة وغتر منشاة وعقل مرعزية مبرومة وأحذية لماعة وساعات سويسرية وسبح بلون الأندية الرياضية ويأتي كل طالب وحده في سيارة فاخرة وكأن طلاب «المهني والفني هؤلاء» ذاهبون الى حفل عرس..! أين هي المظاهر العملية والمهنية في هذا النوع من التعليم المهني عوضا عن التدريب العملي داخل هذه المؤسسات وهو الذي ينصب في معظمه على الدروس النظرية..؟! أقول هنا.. بأن الجهات التي عهد اليها بمسألة التدريب المهني في البلاد تتحمل مسؤولية كبيرة حيال المأزق الكبير الذي يواجهه قطار السعودة في البلاد، ففي الوقت الذي شرعت فيه الدولة في تنفيذ برنامج سعودة الأعمال والوظائف خدمة لأبنائها وشبابها المحتاجين للأمن الوظيفي في بلادهم ظنا منها ان ما يحمله آلاف المتخرجين في هذا الكم الكبير من مدارس ومعاهد وكليات التدريب المهني من شهادات دراسية سوف يساعد على تحقيق أهداف البرنامج ومنها الاحلال الوظيفي وتوفير الفرصة لمن يستحقها لكن الصدمة كانت كبيرة لأن التجربة الميدانية أثبتت وما زالت كذلك بأن مثل هذه الشهادات ما هي إلا جوازات عبور لوظائف متواضعة في القطاع العام توفر لأصحابها من الأمان الوظيفي الشيء الكثير ولكنها تفقدهم الكثير من الفرص الجيدة والمال الوفير الذي يذهب الى جيوب غيرهم من غير الوطنيين، والأسباب بطبيعة الحال كثيرة ليس من بينها قصور مكاتب العمل او سوء إداراتهم في مناطقهم لأن الإدارة الدفترية والورقية لا تمثل شيئا في الموضوع من أساسه ولكن التدريب المهني منذ بداياته الأولى خضع لنمطية نظرية شيه بحتة واستسلم للتقاليد الاجتماعية العقيمة وارتبط بحركية التوظيف التي سادت في البلاد قبل عدة سنوات فلم يكون في التصور او الحسبان قبل عشرين عاما ان يكون هناك آلاف السعوديين الذين يطلبون العمل فلا يجدونه وظل الزي السعودي وما زال عائقا مهنيا في الفصول والمعامل وحائلا دون العمل في كثير من الأحيان، لأنه إذا كان من الصعب تصور الطالب الذي يدخل مدرسة مهنية فيها ورش ومكائن ومعدات وآلات وغيرها بهندام أنيق فانه من الصعب تصوره وهو يحمل شهادة مهنية ويقف بذات الصورة أمام إدارة توظيف في مصنع او مؤسسة صناعية يطلب فرصة توظيف..! لا ينبغي ان نلقي باللوم كله على المجتمع وعلى ابنائها الشباب فالقضية في هذه الصورة بالذات قضية تقليد اجتماعي متخلف لم نعمل على تقويمه او تهذيبه من خلال غرس السلوك المهني الحضاري الجاد منذ اليوم الأول في المؤسسة التعليمية المهنية والذين تعطى لهم فرص عملية في القطاع الخاص بشهادات هذه المدارس ثم يرفضون التخلي عن الثوب والغترة والعقال أثناء العمل لا يلامون ابتداء بقدر ما تلام المدارس التي لم تفرض عليهم مثل هذا السلوك من بداية الأمر ولو فعلت ذلك بفهم ومسؤولية لساهمت الى حد كبير في نزع قناع العيب من مهن شريفة تدر ذهبا وفضة مثل السباكة والحدادة وغيرها، من مهن يتدرب عليها طلابنا في مدارسهم ثم يرفضون مباشرة العمل بها بعد التخرج..! سوف نجد الكثير مما يمكن قوله في مسألة الخجل من بعض المهن والأعمال تلك التي لم نقابلها بما تستحق من بحث ودراسة وترسيخ للتقاليد المهنية العصرية الجادة وعوضا عن ذلك واجهناه بكثير من الاستعجال في فرض النسب التوظيفية في القطاع الخاص.. ولو بحثنا في واقع العلاقة بين أرباب العمل ومنسوبيهم من السعوديين الذين فرضوا عليهم بموجب القانون لربما عثرنا على مكامن الوجع واستطعنا العمل على ردم الهوة بين الطرفين ولربما عادت الثقة لتأخذ مسارها الطبيعي بينهما ولما احتجنا الى التدخل بينهما مرة أخرى إلاّ بالحسنى. إن مسألة التأهيل المهني بمعناها الحقيقي لم تأخذ حقها المتوجب لها لا من الجهات المعنية ولا من القطاع الخاص ولو ان هناك تجارب ناجحة لا ينبغي اغفالها تمت في ارامكو السعودية وفي بعض شركات اخرى مثل الجفالي وشركة عبد اللطيف جميل على سبيل المثال، فهذه الشركات نجحت الى حد ما في التأهيل والتدريب علميا وعمليا في اطار سلوكي منضبط لأنها غرست منذ البداية تقاليد مهنية منضبطة داخل عباءة الورشة والمختبر وليس عباءة الثوب والغترة والعقال..! عندما يأتي ذكر التوظيف في القطاع الخاص ودور مكاتب العمل في هذا الأمر يأتي ذكر الموظف السعودي غير الصبور المتعجل الذي لا يستقر في عمل واحد او مهنة يحبها وسعوديون يستغلون نظام النسبة في التوظيف ويملؤهم شعور بأنهم جاءوا من أعلى، فهم لا يرون في هذه الفرصة التي هيئت لهم سوى انها محطة يعبرون منها الى وظيفة حكومية سهلة مريحة، بدون مسؤوليات. وفي جو مشحون بالطلب على العمل والوظائف وبتقلص الفرص في هذا الجانب ويتجه بالشباب في كل الاتجاهات بين القطاعين العام والخاص يبرز كثير من الصور التي تحمل من الدلالات ما يستحق الانتباه والتوقف فهناك آلاف من الجامعيين ينتظرون الفرص التي تبتعد عنهم أكثر وأكثر مع مطلع كل يوم وفي مقدمة هؤلاء آلاف المتخرجين في «الكليات التقنية»..! تلك التي يفترض انها تنقلهم مباشرة الى سوق العمل، وهناك طلبات وعروض تثير الاستغراب من مثل: طيار يبحث عن وظيفة..! أو مؤسسة أهلية تطلب فراشاً يجيد الانجليزية..! وشركات وغيرها تعرض وظائف للسعوديين من ضمن شروطها الكثيرة «خبرة في مجال العمل لا تقل عن خمس سنين»..! ومثل هذه الفرص التي تشترط الخبرة في المتقدمين ليس لها إلا من هم على رأس العمل فعلا ولا نصيب للمتخرجين الجدد فيها..! ماذا يفعل بل ماذا فعل أكثر من 37 مدير مكتب للعمل في اجتماعهم بالرياض في الأسبوع الفارط..؟ هل قدموا «آراء ومقترحات وتوصيات» لحل مثل هذه الاشكالات التي تواجه الاحلال المهني والتوظيفي «للوطني»..؟ أم اكتفوا بعرض عوائقهم المكتبية والإدارية والدفترية التي لا تعنينا هنا في شيء..؟! متى نعمد الى تقييم تجربتنا في مجال التدريب الفني والمهني وعلى ضوء ذلك نقوّم العمل بها بما يكفل الاستفادة الفعلية من الخريجين الذين يجب ان يعتد بهم في تخصصاتهم العلمية..! ماذا وإلا.. لنقفل أبواب هذه المعاهد والكليات والثانويات التي تسمي نفسها مهنية.. مع ان المتخرجين فيها لا يوثق بشهاداتهم غالباً، ولا يرحب بهم في القطاع الخاص، ولا هم راضون عن وجهتهم العملية بعد التخرج..؟ للتواصل[email protected]