كانت تلك السيدة من الجيل الذي يحتوي أولاده، شاملة فلذات كبدها بكل حب، مقدرة دور زوجها أبي حفظه الله القيادي في كل صغيرة وكبيرة تخص الاسرة، مشعرة كل فرد من افراد الاسرة بأنها تحبه هو فقط أكثر وأكثر، انها عادلة في توزيع المحبة، انها سيدة رائعة في أدبها وتأدبها، في كلمات شعرها وفي مشاعرها، بسيطة في اسلوبها خلوقة في تعاملها وفي معاملتها، لقد كانت مذهلة التواضع، مدهشة الحديث، بارعة التخاطب,, رقيقة المعنى ورفيقة المهلوف، وصادقة الوعد,, لا تعرف ولا تنطق بغير الحق، لا تجامل احداً في القول، ولا تتحامل على أحد في شتى المواقف، تحفظ التراث والفلكلور الشعبي، وتاريخ الماضي ويأسرك ذلك الطيف المرسوم باسما على محياها,, كأن الطمأنينة عنوان لها، لقد كانت رغم آلاف الاميال بيني وبينها تشعرني دوما بكل ما في نفسي، وكأنها تقرأني,, فكانت خطاباتها لي ذات تخاطب عائلي يهون على النفس وحشة الأيام,, لقد كان حبها في قلبي، هذا الحب كالدم الذي يتسرسب في خلايا كياني، لقد كنت اظنك اكبر من ان اعلن لك ذلك,, فقد كنت انت الحب الذي كتب علينا افتقاده,, لقد عشت دنياك عظيمة مؤمنة صالحة صابرة مرضية ونورك يسعى بين يديك إلى خالقك إن شاء الله. لقد قضى الحق سبحانه وتعالى بالموت على جميع خلقه صغيرهم وكبيرهم عالمهم وجاهلهم ذكرهم وأنثاهم مسلمهم وكافرهم، فالموت لا مفر منه ولا محيص عنه فالحق سبحانه قد ساوى بين البرية في ورود حوض المنية، والموت مشروع لابد مورود، وكلنا وان طال المدى مفقود، وبين الحين والآخر يأخذ الموت عزيزا علينا فنرضى بقدر الله، فقضاؤه ماض، وهو عدل قاض، يولي ويبتلي، يسلب ويعطي له الخلق وفعله الحق فأمر الله لا يقبل إلا بالرضا والصبر على ما قضى ومضى. أنا أؤمن بالله يا أمي,, وأؤمن ان الدنيا دار ممر. وأؤمن ان هذا القلب يئن توجعا ويخشع لقضاء الله وقدره ويصير متفرغا لرحمته وبروح ارهقها طول الحرمان تظل صابرة، روح أسأمها عذاب الشوق إلى لقاء الحبيبة في الدار الآخرة وبدمع لا يكفكف تحسراً على ماضي الايام. رباه ألهمني الصبر والسلوان حتى استطيع ان اتماسك، فكلما تذكرت انها فارقت هذه الدنيا الفانية اشعر بالصدمة القوية، انني لا استيطع ان اصف مشاعري ففي كل شارع من شوارع المحروسة اشعر بوجودها,, وعلى كل وجه ملامحها,, وبين ضلوعي,, وبين حنايا القلب وخفقاته,, بين اناملي، بين نفسي وانفاسي,, بين أغلفة وأسطر كتبي,, بين مجلاتي وجرائدي,, بين أوراقي ولوحاتي,, أشعر وكأن يدك يا غالية تتقدم لتسبق فكري وتفتح لي الصفحات,, انك بين الحروف والكلمات وبين الاسطر والهوامش,, أشعر بك وكأن رائحتك في ملابسي,, تملأ حواسي، تدخل بين رئتي شهيقا وزفيراً,, كيف لا,, واشياؤك تتواجد في كل شيء، انها جزء من كياني,, انها تزيد من احزاني. أليس بعد ذلك من حقي ان أبكيك يا أمي,, والدمع عندي غالٍ ولكنه يرخص بين يديك,, أذرف الدمع يا أمي,, يا صديقتي الاولى ويا معلمتي الاولى,, يا ذخري وعزوتي,, يا فخاري وفرحتي,. أبكيك يا فارسة النساء,, ويا نجما ازداد ضياؤه كلما افل وابتعد,, ووردة انتشر عبيرها كلما تساقطت أوراقها,, مفجوعا يا أمي,, يانوراً اهتدت به الركبان حتى وان وهن نور عينيك بين صفحات الكتب والمعاجم,. ابكيك يا أمي,, يا قلبا اتسع للناس,, كل الناس,, وكان الخير بين يديك عنوانا لك,, وازدان بالحب اسمك ورسمك,, حتى وان اضنتك الاسقام,, والآلام,. أبكيك يا أمي,, يا عمراً أفنيته ما بين العلم وما بين العطاء، وتركت ثروة ذكراك، وشذا سيرتك,. أبكيك يا أمي,, يا من حملتني بين ذراعيك مراراً لأحملك في عقلي مرات إلى رحلتك الابدية الى جنة الخلد إن شاء الله,, إلى جنة الخلد يا أماه,. يا امرأة شرفني رب العالمين ان تكون أمي، وسيدة قلبي التي مهما قلت فيها من رثاء لا استطيع ان أوفيها حقها,, الكلمات تغص في حلقي والعبرات تخنقني كلما تذكرتك ايتها الانسانة العظيمة في كل شيء، الجميلة في كل شيء,, البسيطة، الرائعة، الودودة، المبتسمة في شتى الوجوه، وفي احلك المواقف البلسم لكل داء,. رباه ألهمني القوة حتى استطيع ان اتجاوز أحزاني، ها أنا ذا افقد والدتي لأعيش يتيم الأم,, ولكن لا أقول وأنا أكثر من يفتقدك على وجه هذه الدنيا إلا: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكلي ايمان وكلي صبر على قضاء الله وقدره,, غفر الله لك وادخلك فسيح جناته.