السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فكثيراً ما نقرأ اشعاراً تنسب لغير قائلها، أو يعمم عند ذكرها كأن يقال: قال الشاعر أو مثل هذا. وما أكثر ما يمر في الجريدة الجزيرة ذكر أبيات أبي العتاهية الشهيرة في المشيب وهي: عريت من الشباب وكان غضا كما يعرى من الورق القضيبُ ونُحت على الشباب بدمع عيني فما يجدي البكاء ولا النحيب فيا أسفاً أسفت على شباب نعاه الشيب والرأس الخضيب (والخضيب المصبوغ بالحناء). ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب بدون اسنادها إلى قائلها، بل لقد سألت أحد المثقفين مرة عن قائلها فقال لي: انه أحمد شوقي، وذلك لجمالها وعذوبة ألفاظها ووضوح معانيها, ومن ذلك قوله (أبي العتاهية) أيضا: أذل الحرص أعناق الرجال . ومن الأبيات الشهيرة التي تذكر بدون قائلها أو تنسب إلى غيره قول المتنبي الشهير الذي يستشهد به حتى العوام: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وهي من القصيدة المشهورة في مدح سيف الدولة والتي مطلعها: لكل امرئ من دهره ما تعودا وشيمة سيف الدولة الطعن في العدا ولا بأس من ذكر طرفة تتعلق بهذا البيت: فقد رُوي أنه لما أنشد المتنبي هذه القصيدة (جالساً) قال أحد حاسديه معرّضا به مثيراً سيف الدولة عليه: لو أنشد (المتنبي) واقفاً لأسمع, فقال له المتنبي (وكان ذكيا لمّاحاً سريع البديهة): أما سمعت أولها ياجاهل؟ يشير إلى قوله في أولها: لكل امرئ من دهره ما تعودا، والمتنبي تعود ان ينشد جالساً حتى ذكروا انه اشترط على أحد ممدوحيه ان يقف (الممدوح) أثناء إنشاد القصيدة وان ينشد المتنبي جالساً. قلت: وبمناسبة ذكر أبي العتاهية في أول ما كتبت ولقلة معرفة أكثر الناس بشعره إلا أقله أحببت أن أكتب في عزيزتي الجزيرة شيئاً عنه فأقول: أبو العتاهية هو إسماعيل بن القاسم ولد سنة 130ه وتوفي سنة 211ه أو 212ه، نشأ بالكوفة حتى إذا نضجت موهبته الشعرية اتجه إلى بغداد فمدح الخلفاء المهدي وابنيه الهادي والرشيد، وقد مات في خلافة المأمون بعد ان بلغ الثمانين من العمر، وهو عربي الأصل في قول ينتسب إلى عَنَزَة، وقيل انه من موالي عنزة من قبل أبيه، ومن بني زهرة ولاءً من قبل أمه. وقد عدّه أنيس المقدسي أحد أمراء الشعر العربي وذلك في كتابه امراء الشعر العربي . كان في أول حياته يعيش حياة الشعراء في عصره فيمدح ويرثي ويتغزل، ومن أحسن مدائحه قصيدته في مدح أمير المؤمنين المهدي العباسي يوم تولى الخلافة ومطلعها: ألا ما لسيدتي ما لها أدلّاً فأحمل إدلالَها؟ ومنها : أتته الخلافة منقادةً إليه تجرِّر أذيالها وهذه استعارة مكنية حيث شبهها بالعروس وحذف المشبه به، وأذيالها: أذيال ثوب العروس (لطوله)، ويظهر انهم في ذلك الزمان لم يكونوا يأتون بأطفال يحملون أذيال ثوب العروس بدل ان تكنس الأرض بها. ولم تكُ تصلح الإ له ولم يكُ يصلح إلا لها وهذا كلام قوي محكم يرضي الخليفة المهدي بلاشك. ولو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالها قلت: ولن تُزلزل الأرض زلزالها، ولن تخرج أثقالها لموت خليفة ومبايعة آخر وإنما ذلك يكون يوم القيامة اللهم إلا إذا كان ذلك كناية عن فتن تقوم بين طالبي الخلافة. أما عن غزل ابي العتاهية فله فيه لطائف تذكر, وقيل انه في اول عهده مال إلى الغزل والمجون حتى إنه سمي بأبي العتاهية لأنه كان يحب المجون والتعتّه (من العته وهو السفه والجنون معتوه). ومن غزله في عتبة (التي اشتهر بحبها): كأنها من حسنها درة أخرجها اليم إلى الساحل كأنما فيها وفي طرفها سواحر أقبلن من بابل لم يبق مني حبها ماخلا حُشاشة في بدن ناحل ومن غزله في عتبة ايضا وفيه كثير من المبالغة: يا اخوتي ان الهوى قاتلي فسيّروا الأكفان من عاجلِ ولا تلوموا في اتباع الهوى فإنني في شغل شاغل عيني على عتبة منهلةٌ بدمعها المنسكب السائل يا من رأى قبلي قتيلا بكى من شدة الوجد على القاتل بسطت كفي نحوكم سائلا ماذا تردون على السائل وإذ لم ينل أبو العتاهية من عتبة تجاوباً بل قيل انه ضُرب من قبل الخليفة المهدي مائة سوط لغزله في عتبة وهي جارية الخيزران زوج المهدي وام الهادي وهارون الرشيد فزهد وتنسك, وقال فيه أبو العلاء المعري: الله ينقل من شا ء رتبة بعد رتبه ابدى العتاهي نسكاً وتاب عن حب عتبه قلت: وعلى الداعية إلى الخير ان يكون ماضيه نظيفا حتى لا يعيَّر ويعاب مثل ابي العتاهية. وأخذ معاني من القرآن الكريم والحديث الشريف فنظمها قال: إذا المرء لم يعتق من المال نفسه تملكه المال الذي هو مالكه ألا إنما مالي الذي أنا منفق وليس لي المال الذي أنا تاركه إذا كنت ذا مال فبادره بالذي يحق وإلا استهلكته مهالكه (أخذه من الحديث الشريف: انما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ). ومع ذلك فإنه كان يحتفظ في بيته بالأموال (والبِدَر) وهي أكياس يوضع بها المال قالوا انه كان عنده سبع وعشرون بدرة فلما سئل لماذا يكنز أجاب للمستقبل والحاجة. وقد أراد ابنه ان يتزهد فنهاه ودعاه إلى الذهاب إلى سوقه وكان ابنه بزّازا (يبيع الثياب). وقد قال قصيدة وجهها إلى سلم الخاسر ينعي عليه الاقبال على الدنيا والاجتهاد في طلب المال,, قال: نعى نفسي إليّ من الليالي تصرفهن حالاً بعد حال فما لي لست مشغولاً بنفسي وما لي لا أخاف الموت مالي لقد أيقنت أني غير باق ولكني أراني لا أبالي أما لي عبرة في ذكر قوم تفانوا ربما خطروا ببالىِ إلى أن يقول: تعالى الله يا سلم بن عَمروٍ أذل الحرص أعناق الرجال هب الدنيا تساق إليك عفوا أليس مصير ذاك إلى الزوال فما ترجو لشيء ليس يبقى وشيكا ما تغيره الليالي خبرت الناس قِرنا بعد قرن فلم أر غير ختالٍ وقال (القرن: القرين والصديق، والختال: الخداع والقالي: الكاره) وذقت مرارة الاشياء طرا فما طعم أمر من السؤال قلت: ولكن المتسولين لا يجدون طعماً ألذ ولا أحلى من السؤال. وقد قال سلم الخاسر حين سماعه القصيدة: ويلى على,,, الزنديق، جمع الأموال وكنزها وعبّأ البدر في بيته ثم تزهد مراءاة ونفاقاً, فأخذ يهتف بي اذ تصديت للطلب , على أنه اشتهر مع الزهد بالحِكَم ومن حكمه الشهيرة: * أخوك الذي من نفسه لك منصف إذا المرء لم ينصفك ليس أخاكا * أجَلّك قوم حين صرت إلى الغنى وكل غني في العيون جليل وليس الغنى إلا غنى زيّن الفتى عشية يقري أو غداة ينيل (يقري: القِرى طعام الضيف، ينيل: يعطي النوال وهو العطاء) إذا مالت الدنيا إلى الحرّ رغَّبت إليه ومال الناس حيث يميل توقّ يداً تكون عليك فضلاً فصانعها اليك عليك عالِ (توق يداً: اترك معروفاً ولا تقبله عليك عالِ: أي متكبر، من اليد العليا). * وفي طول الأمل: * وابلائي من دعاوي أمل كلما قلت تدانى بعدا (مثل السراب) كم أمني بغد بعد غدٍ ينفد العمر ولا ألقى غدا ولذلك قال شوقي رحمه الله: وما استعصى على قوم منال إذا الاقدام كان لهم ركابا وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا * أنت ما استغنيت عن صا حبك الدهرَ أخوه فإذا احتجت إليه ساعةً مجّك فوه وهذا معنى معروف مشهور, على ان لأبي العتاهية أرجوزة حِكميَّة قالوا انها تبلغ نحو اربعة آلاف مثل لا يوجد منها في ديوانه الا ما يقارب الخمسين، وما اكثر ما ضاع من تراثنا, ومنها: * في القناعة: ان كان لا يغنيك ما يكفيكا فكل ما في الأرض لا يغنيكا * وفي البدء بإصلاح النفس لتصبح قدوة: لن يصلح الناس وأنت فاسدُ هيهات ما ابعد ما تكابدُ * في النمّام وأذاه الذي يقع على من نمّ له لا من نمّ به: من جعل النمام عيناً هلكا مبلغك الشرّ كباغيه لكا * قالوا: ومن أثبت الحقائق العلمية والاجتماعية هذا المثل يوسع الضيقَ الرضا بالضيقِ وإنما الرشد من التوفيق ويكفي هذا, شاكراً لجريدة الجزيرة المنمقة وصفحتي عزيزتي الجزيرة المبرّقة والقراء الكرام والسلام ختام. نزار رفيق بشير الرياض