بكت الأرض التي لم يسع فيها بحثاً عن جاه أو مال، ولم ينقب في مناكبها إلا عن كنوز المعرفة وبريق الحق. بكت الأرض التي استعادته إلى صدرها ابناً باراً بعد أن سكب في نفودها ودهنائها وسواحلها ضوء عينيه ليبدد عنها عتمة الجهل ويدفع ما استطاع عن عقول أبنائها عورات التعصب بعلمه وبحثه وصبره وحبه لتمر نخيلها وتراب صحرائها وإخلاصه قولاً وعملاً لوجه الواحد الأحد. بكت الأرض على ذلك الشيخ الجليل الذي كان يمشي على بساطها وعثراتها بتواضع العلماء وزهد العظماء وعفاف غير الطامعين إلّا في مرضاة الخالق ثم ضمائرهم. بكت الأرض على ذلك الشاب الذي عاشر شظف العيش في مطلع عمره بعنيزة وشهد موجة العز الزائل من زاد الدنيا التي أخذت في تغيير نفوس العباد ومعالم البلاد، فلم يزده ذلك إلا تمسكاً بعقيدته وتنسكاً لعلمه، ليساهم بالقول والعمل في تبصير الشباب لاستيعاب التحولات والتعامل معها تعاملاً إيجابياً منتجاً لا تعامل تابع خانع أو قاعد عاجز. ولقد رأيت شباباً يافعاً لم يقترب بعد أو لم يبتعد كثيراً عن عمر الحلم من شباب أسرتي يبكون بتفجع على فراقه الأليم ويدعون بتهدج من قاع قلوبهم بأن يمنّ الله على الراحل الكريم بجنة الخلد على ما نفعهم به من علم وعلى ما أعطاهم وغيرهم من حسن المعاملة، وعلى ما كان يبديه من البشاشة وحلو المعشر مع كل تلاميذه ومرتادي حلقات علمه ومحاضراته، وعلى حسن تواصله العلمي والإنساني مع المدارس والجامعات ومساجد الأحياء قريبها وبعيدها، غنيها وفقيرها. كما انني وجدت صعوبة قصوى الأسبوع الماضي في إرسال مقالي عبر جهاز الفاكس لسيل الرسائل والكتابات الذي لم ينقطع على مدار الساعة ولعدة أيام عن جميع خطوط الفاكس بجريدة الجزيرة، مما جعل الخطوط لا تكاد تلتقط أنفاسها لاستقبال مواد أخرى غير ما كان يصلها من عواطف صادقة جياشة أو معلومات موضوعية أو ذكريات تتلمذ أو صحبة طيبة وسواها من الكتابات التي كتبها أصحابها عن وفي الشيخ الجليل والمصاب الجلل بفقده, مما يقيم الدليل ليس فقط على فضيلة الوفاء التي تتحلى بها الأجيال التالية، على غير ما يشاع عنها من جحود وعدم اكتراث، بل مما يقيم الدليل أيضاً على مدى دقة حاسة التمييز عند هذه الأجيال وقدرتها على تقدير الكبير بعلمه وفضله وتواضعه واجتهاده، وبمدى قربه من شجونها وشؤونها واهماماتها بغض النظر عن مساحات العمر بين الأجيال ما دام هذا الدين نفسه دين الفطرة والإنسانية والعقل والتفكر قد جعل في اختلاف الفقهاء وتعدد الاجتهادات رحمة بالأمة. وقد جاء في المتابعات الصحفية وسواها من المصادر توثيق لما عُرف عن الشيخ الجليل رحمه الله رحمة واسعة من توجه نحو الأخذ بالتعدد المذهبي في الفروع من المذاهب الفقهية, فلقد كان عالماً حقيقاً يعيش حياته طالباً للحقيقة باحثاً عن فضيلة ومآثر الحق والعدل، مبشراً غير منفر، وميسراً غير معسر. ولقد جاء في الشهادات والقراءات التي عمّت جميع صحف المملكة وتعدتها عن الشيخ الجليل، وخاصة تلك الشهادات التي فاضت بها صدور تلاميذه وعقولهم، ما يمكن أن يشكل لو جُمع مرجعاً تربوياً وأخلاقياً في كيفية التعامل بين المعلم والتلميذ وفي كيفية عرض العلم وتقريبه من أذهان الطلاب ونفوسهم بالأمثلة والمعاني محفوفاً بالرحمة والرفق وسعة الصدر, رحم الله العالِم الفاضل أبو عبدالله الشيخ محمد بن صالح العثيمين، فقد كان وسيظل لأجيال تأتي قدوة في الغزارة المعرفية والاعتدال والحلم وفي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة, هذا وإنا لله وإنا إليه راجعون ولله الأمر من قبل ومن بعد.