عندما كان الفيتناميون يتفاوضون مع الأمريكان في باريس، كانت مقاومتهم تدمي القوات الأمريكية. فعل ذلك الكاثوليك في إيرلندا الشمالية ضد البروتستانت المدعومون من الجيش البريطاني، وفعل ذلك الجزائريون في مقاومتهم للاحتلال الفرنسي، وفعل ذلك أيضاً الأفغان في مقاومتهم للاحتلال السوفييتي. المفاوضات الإسرائيلية المصرية نجحت في إجلاء القوات الصهيونية من سيناء لأن إسرائيل حققت مكاسب إستراتيجية أهمها تحييد مصر العربية في الصراع العربي الإسرائيلي وهي أكبر الدول العربية، وكبلوها بمعاهدة تحرمها من السيادة على سيناء وإدخال جيشها إليها. انسحب الإسرائيليون من غزة ومن جنوبلبنان تحت ضربات المقاومة دون قيد أو شرط، بعد أن فشلت كل أنواع المفاوضات والمساعي الدبلوماسية. كافة الدول التي استقلت عن طريق المفاوضات إما أن تكون قد استخدمت العصا أو الجزرة أو كلاهما معاً لنيل استقلالها. المفارقة أن المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية استمرت عشرون عاماً، والأراضي المحتلة عام 1967م تحت الاحتلال الإسرائيلي، تفرغها إسرائيل تدريجيا من سكانها الفلسطينيين وخاصة القدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وتغرس المستوطنات الإسرائيلية في مختلف أرجائها مقطعة أوصال الضفة الغربية، كل ذلك وهي تتفاوض مع السلطة الفلسطينية. السلطة الفلسطينية قدمت الكثير مما لديها من جزر بتقديم التنازل تلو الآخر أثناء المفاوضات وكان يفترض أن تكون تلك التنازلات ثمنا لتحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الخامس من يونيو عام 1967م، فهي اعترفت بدولة إسرائيل وأرجأت التفاوض حول عصب الصراع العربي الإسرائيلي المتمثل في الحدود والمياه وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مرحلة سميت بالنهائية والتي لم تأت ولن تأتي، لأن عصاها هي الأخرى ثلمت وأضحت بلا عصا أو جزرة. إسرائيل كلما حصلت على تنازل من السلطة الفلسطينية طالبت بآخر، وهكذا أصبحت إزالة المستوطنات في السنوات العشر الأولى من المفاوضات هي موضوع المفاوضات وليس الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، وانحصر اليوم التفاوض في تجميد بناء المستوطنات أو توسعتها، ولم يعد هناك تفاوض حول إزالتها، ناهيك عن تحرير فلسطين كل فلسطين. السلطة الفلسطينية اليوم تتفاوض وقد أفرغت جعبتها من أي أوراق ضغط ولم يبق لديها أي تنازلات تقدمها لإسرائيل مقابل الانسحاب إلى حدود 1967 إلا أجزاء من تلك الأرض، وهو ما يرفضه الفلسطينيون والعرب جميعاً وفق مبادرتهم للسلام في قمة بيروت. إسرائيل اليوم لا ترفض وقف الاستيطان وحسب؛ بل تطلب من السلطة الفلسطينية التي سبق أن اعترفت بها، أن تعترف بها دولة خالصة لليهود، يجب أن تفرغ عاجلاً أو آجلاً من الفلسطينيين. ربما فقدت إسرائيل بموقفها هذا بعض التعاطف الدولي، وربما ازداد عدد الدول المتعاطفة مع السلطة الفلسطينية، لكن ماذا ينفعها هذا التعاطف وقد نخر السوس عصاها، وأكلت إسرائيل جل جزرها على مائدة المفاوضات، وعجز عراب المفاوضات الأمريكي عن مجرد التلويح بعصاه. ربما احتاجت عملية التفاوض إلى إعادة توازن، وقد يكون هذا التوازن من خلال استخدام الضفة لعصا غزة واستخدام غزة لجزر الضفة. وهذا كل ما يتمناه المتفائلون والمتشائمون والمتشائلون.