قد يقول قارئ مالنا وابن الرومي هذا، فهو شاعر شأنه شأن الشعراء الآخرين، لكني أقول إنه شاعر مثل الشعراء ينظم الشعر ويجيده، لكنه مختلف في ذاته وسلوكه، وحياته الاجتماعية, فقد كان فقيراً وضيعاً سيىء الحظ مع قدرة شعرية كبيرة لم تشفع له في عصر كان الشعر فيه باباً واسعاً للمال والحياة والسؤدد, فقد عاصر عدداً من خلفاء بني العباس هم: المعتصم، والواثق، والمنتصر، والمستعين، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد، والمعتضد، لكنه لم يتصل بأي منهم رغم أنه مولى لأحد أفراد بني العباس يقال له: عيسى بن جعفر، وكان ابن الرومي شديد الطيرة، يتطير من كل شيء, وهو رومي الأصل لا ريب، رغم قول القائلين بأن الرومي لقب لقب به عندما كان صغيرا لوسامته. والطيرة ظاهرة قديمة حديثة عربية وغير عربية وقد نهى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا طيرة ولا هامة ولا صقر أو كما قال عليه الصلاة والسلام, ولقد بلي البعض في عصرنا الحديث بشيء من هذا، فتراه يربط مستقبل الأحداث بما قد يعترضه من عوارض بشرية أو مادية، ويصر على الربط مقتنعاً بذلك، بل إن البعض قد يعزف عن أمر ما, قد يكون له فيه الخبر بسبب تطيره من رقم أو ظاهرة كونية او إنسان بذاته، ولقد بلغ التطير من ابن الرومي مبلغا كبيراً، وكان أصدقاؤه يستغلون ذلك المرض النفسي ليمازحوه بل ويؤذوه فكان الأخفش الشاعر وهو صديق له يطرق الباب عليه فعندما يسأل ابن الرومي عن الطارق يقول له الأخفش أنا مرة بن حنظلة فيتطير من الاسم ولا يفتح الباب ويبقى يومه ذلك دون أن يخرج حتى ولو لم يجد ما يكفيه من الغذاء، وكان يتطير من النوى، فيقول هذا من النأى والبعد، ولذا فهو يقوم من المجلس الذي يؤكل فيه التمر، ويخرج النوى، ولذا فإن أهله يقدمون له التمر بعد ان يخرجوا نواه حتى لا يرى النوى، كما كان في بعض الأحيان يتطير من التمر ذاته، فيقول إن التمر يعني لا تمر، فإذا رأى تمرا في الطريق عاد أدراجه معتقدا ان التمر يوحي له بأن من الأولى له أن يسلك طريقا آخر، وحتى في اسم حسن كان يتلاعب بحروفه فبقوله حسن في الأصل نحس فتحول إلى حسن. كان النحس وسوء الحظ لا يفارقه أينما كان فقد كان فقيراً معدماً مهيناً عند الناس, فقد أولاده الثلاثة واحداً بعد الآخر فقال في ذلك قصائد رائعة تعبر عن فقد الوالد لولده فقال عند وفاة أوسط أبنائه: توخى حمام الموت اوسط صبيتي فالله كيف أختار واسطة العقد؟ وإني وإن متعت يا بني بعده لذاكره ما حنت الثيب في نجد وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه، كان الفاجع البين الفقد لكل مكان لا يسد اختلاله مكان أخيه من جزوع ولا جلد هل العين بعد السمع تكفي مكانه؟ أم السمع بعد العين يهدي كما يهدي وقال في رثاء آخر: إبني إنك والعزاء معاً بالأمس لف عليكما كفن تالله لا تنفعك لي شجناً يمضي الزمان وأنت لي شجن ما أصبحت دنياي لي وطنا بل حيث دارك عندي الوطن أولادنا أنتم لنا فتن وتفارقون فأنتم محن وقال في أحد الباقين: حماه الكرى هم سرى فتأوبا فبات يراعي النجم حتى تصوبا أعيناي جودا لي فقد جدت للثرى بأكثر مما تمتعاني وأطيبا فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى إذا فترت عنه العيون تلهبا وكانت له ضيعة صغيرة يذهب إليها بين الفينة والأخرى، إلا انه وجد منها المتاعب، ولم ينل منها مالا يرتجى، أو سعداً يخفف عليه آلام المدينة ونوازعها فهو القائل: لي زرع أتى عليه الجراد عادني من زريته العواد كنت أرجو حصاده فأتاه قبل أن يبلغ الحصاد الحصاد ولسوء حظه أيضاً فقد جاءه حريق في العام الذي يليه فقضى عليه. كان يمدح أهل الثراء فلا يصيب إلا الرد، ويستصرخ القادرين فلا يغنون عنه، بلا لا يقرؤون كلامه أحياناً، ولم يكن أقرباؤه أرفق به ولا أحسن رعاية. قال: لي ابن عم يجر الشر مجتهداً علي قدما ولا يصلي له ثار يجني فأصلي بما يجني، فيخذلني كلما كان زنداً كنت مسعار أعاذنا الله من الطيرة وسوء الحظ، وجعل كل قريب وصديق سند وعوناً لصديقه.