لا أُراني أشدَّ اضطرابا من حالي في التعبير وأنا أُنشىء (كلمة رثاء) فيمن يفارقنا من الأحبة بالموت، فان فَجعَ المصيبة يحبس الفكر عن إدرار الكلام الخليق بالنشر، فَيَنِدُّ عنه طائفة من أجزائه المهمة (وهذا يَجري لكثير من الناس),, أما أنا فلا يسلم لي أحيانا إلا صرير القلم بما لايَنقَعُ الغُلَّة ولايشفي الصدر. ومما يزيد بليتي هنا اني إذا ختمت حديثي، وأبلغته الجريدة، ورأيته منشورا؛ ثاب إلى ذهني (فُجاءَةً) من أعضاء الكلام والمعاني الجديدة ما كان نافرا منه مُستَكِنّاً بِسَورة الحزن ساعة كنت أتحسر على ادِّكاره واستحضاره، فأقرع السن وأتمثل: لا خير في الشيء انقضى وقتُه ما لِقَتيل حاجةٌ بالطبيب كما أعاتب الذاكرة التي ضَنَّت عند حاجتي إلى المدَدَ، ثم جادت وأَسمَحَت بعد فَوت أوانه، فأُنشِد مع القائل: إنما تحسن المواساة في الشِّدّ ةِ لا حين ترخُص الأسعار أجل؛ إنه لشأني الآن فيما أدوّن هنا عن شيخنا المربي الأجلّ: علي الصالح الضِّلعان، وقد ناداه ربه للقائه يوم 16 رمضان 1421ه فَلبّاه (رحمه الله), فلقد ملك أسفي عليه أقطار النفس، كعادتي في مثل هذِهِ الحالِ الوجدانية المدلهمّة,, فجعلت أكتب وأمسح واقدم في الجمل وأؤخر، لا أكاد أميز بين جيد القول ووسطه,, ولا تعجب أخي، فهذا العباس بن الأحنف كان أشدَّ من ذلك يوم قَعَد يُحَبِّر رسالة تَوَجُّدٍ في حبيب له شَطَّت عنه داره، وعَزَّ عليه مزاره,, فان قلمه أخذ يجري على القرطاسة، ومقلتاه تمطرها بالدمع فيطمس المداد، فأنشأ يصف حاله ويقول فيما قال: كتبت كتابي ما أقيم حروفه لشدة إِعوالي وطولِ نحيبي أَخُطّ وأمحو ما خططت بعبرة تَسِحُّ على القرطاس سَحَّ غروب على أنه مهما طال بنا الزمان في بكائِنا مَن يسافر منا على قطار المنية، فان قُصارَى الدمع وغايتَهُ أن (يَخِفَّ ثم يَجِفَّ ثم يَكُفّ بتاتا) وقد جاء في الحديث وإنكم لتَسلون كما تسلوا البهائم ويقول الشيخ الرئيس في همزيته الشهيرة: غاية الحزن والسرور انقضاء ما لِحَيّ من بعد مَيتٍ بقاء لا لَبيدٌ بأربَدٍ مات حزنا وسَلَت عن شقيقها الخنساء وهذا شوقي يقول في سينيته يعارض البحتري: اختلاف النهار والليلِ يُنسِي . أما قول أحد الأعراب يرثي ولداً له مات: ولما دعوت الصبر بعدك والأسى أجاب الأسى طوعا ولم يُجِبِ الصبر فإن ينقطع منك الرجاء فإنه سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر فليس إلا من شدة الغلو في التفجع. ولكنَّ فيضان العين بمائها أيام المصيبة يُسَرِّي عن النفس وُيعقِبها راحة من الوجد، وإن كان لايغني عن الحق شيئا، فإن البكاء كما قال ابن الرومي يَشفي ولا يُجدي ومن المعلوم انه لايرد الفائتَ الحزنُ . والموت قَدَرٌ مسلط على بني التراب أَجمعَ، لا عَوذَ لأحد منهم ولا لَوذ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ويقول ابن سيناء في همزيته تلك: يدرك الموتُ كلَّ حي ولو أخ فَتهُ عنه في برجها الجوزاء وآخر يقول: هو القدر المحتوم إن جاء مقبلاً فلا الغابُ محروس ولا الليث واثب ويقول الآخر: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكا لطِّوَلِ المُرخَى وثِنياه باليد وآخر: خلقنا للفناء فلو تُرِكنا لضاق بنا الفسيحُ من الرِّحاب إذاً فليس لنا في هذه الفواجع إلا التجلد والتصبر واحتساب ثواب الله,, ذلك أن المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان,, وما أحسن سماعَ واتباعَ نصيحة القائل: إذا حلَّ بك الأمرُ فكُن بالصبر لوَّاذا وإلاَّ فاتك الأجر فلا هذا ولا هذا ويقول آخر: ما قد قُضِي يانفسُ فاصطبري له ولكِ الأمانُ من الذي لم يُقدَرِ وعلى هذا النحو الذي أشرت إليه من حالي في كتابة المراثي، وجدتُني وأنا أخط هذه الكلمةَ عن شيخي (علي الصالح) فأنشرها ولو ناقصةً، ولا يعوقني الزَّحير وطول التفكير عن إجراء القلم بهذه السطور: ولد في الرس سنة 1345ه وعاش بها (طولَ حياته) وقد بدأ في تَعَلُّم القراءة والكتابة وتَحَفُّظِ القرآن في مدرسة الشيخ/ محمد الناصر الرشيد؛ ثم أخذ علم التوحيد والفقه والحديث والنحو في المسجد عند القاضي محمد العبدالعزيز الرشيد، ثم القاضي من بعده صالح الطاسان؛ حتى وَعَى من هذه الدروس مقداراً حسنا. ولما فتحت أولُ مدرسة في الرس وهي السعودية في شوال 1363ه كان عليٌّ لها من أول الداخلين، وكان من أنبه زملائه وأبلغهم حرصا، وقد ظهرت فيه من بينهم مخايِلُ الذكاء والنجابة، حتى إِنَّ المدير جعل يُنِيبه مدرساً لو غاب مدرس. وفي انتصاف 1364 زار المدرسةَ معتمدُ المعارف في القصيم يومئذ: الشيخ صالح السليمان العمري، ومعه مفتش من المديرية العامة هو الأستاذ/ محسن باروم، وكانت المدرسة في حاجة إلى معلمين، وبينما المفتش يطوف بالفصول يَستَعرِف أحوال الطلاب، إذ لمح في (علي الضلعان) من علامات النبوغ والذَّرابة والاستعداد العلمي ما طاب له وجعله يوصي بترشيحه (معلما),, وهكذا كان؛ حيث عين أواخرَ ذلك العام. وفي 1367 نال الشهادة الابتدائية (في أول فوج تخرج في الرس) وكان ترتيبه الاول في المملكة، يشاركه في هذه الأولية الأستاذ عمران (رئيس مصلحة مياه الرياض) في الماضي (العضو في الشورى) الآن. وفي 1369 عُين وكيلا لمدير المدرسة؛ وبعد مدة يسيرة انتقل المدير عنها وهو الشيخ/ عبد الله العبد الرحمن العرفج إلى الفيصلية في عنيزة، فجُعِل صاحبُنا مكانَه، لكنه بعد برهة قليلة استعفى منه فأُعفي وعاد مدرساً وكيلا بالنيابة. وفي 1383 أنشىء (مكتب التعليم) فانضم إليه (موجها) ثم (مديرا) لكنه لم يَتَلَبَّث إلا قليلا حيث آثر الإياب إلى (التوجيه) وظل فيه حتى أَسلمته الستون إلى التقاعد. وبهذا فرغ لخاصة نفسه ولبيته وروضته العلمية فيه (المكتبة) واقبل على ماكان يحن إليه فيها من القراءة الواسعة المطلقة والبحث والدرس وإفادة المستفيد من طلاب العلم,. ولقد تتلمذتُ أنا لِعَليّ هذا في (سائر صفوف الابتدائية) فعرفته فيها وفي بعض ماتلاها من سنيِّ الدهر، بما أُجمله بهذه الحروف: لقد جَمَع بين لطافة البشير وابتسامته، وشدة النذير وصرامته، فلا يطمعُك فيه اللين والرقة ولا يُوئِسُك منه الصلابةُ والقوة . وأما شمائله (عامة) فانه ساكن الطبيعة، حسن السمت، كريم الخِيم، ثخِينُ العقل، مُستَوِي النظر، فصيح المنطق، مليح النادرة، بديع المحاورة,, يتعاطاها مع كَلِيمِهِ بأدب الانصات وبالمساهلة وسرعة الموافقة ماوسعه ذلك,, ومع كل هذه الخلال المحمودة فانه ظاهر الكَلَفِ والاحتفاء بعلوم اللسان العربي، نحوها وتصريفها والبلاغة والعروض وإنه لَيَعِي ذخيرةً طيبة من مأثور العرب منظومه ومنثوره، وهو إلى ذلك قويُّ الحافظة ذكي الفؤاد، تُواتيه الحكمة ويطاوعه المثلُ في الحال متى دعاهما لمحلِّ الشاهد من الكلام بلا إبطاءٍ في التَّفَطُّن. ومن صفاته أنه قليل الخُلطة بالناس، يَغلب فيه الانصراف عن المجالس العامة والخاصة إلا في واجب القربى والصداقة، ولعله في هذا كمن قيل فيه: مليحٌ ولكن عنده بعضُ جفوةٍ ولم أَرَ في الدنيا صفاءً بلا كدر هذا وإن له لشيئا من المواقف النبيلة المشهودة أكتفي مما أعرف منها بمثالين: 1 فُجِع (مرتين) بموت اثنتين من بُنَيّاته، كلتاهما دَعَسَتها سيارةٌ (خطأً) فلم يُجَمجِم أويتردد في العفو (المطلق) عن الجانبين. 2 كان وهو معلم يَتَخوَّل الفقراء من الطلاب بشيء من الإحسان، من غير أن يفطن أحد منهم أنه يتصدق عليه,, وذلك أن يَتَقَصَّدهم بعضَ الأحيان بأسئلة خفيفة على هيئة (مسابقة) ويقرب لهم الجواب، فاذا بدا له منه كلُّه أو بعضه، تَبَسَّم للتلميذ المجيب، وذك (قبل أن يُبتَدَع التصفيق أو قل يُعرف عندنا) ثم يَبتَدِرُه بنفحة مما أَعَدّ له من الجزاء (قُريشات أو نحوها مما يُطيّب النفس) على أنها مكافأة على النجابة وصحة الاجابة. ومما تقدم من (سيرته العملية) يظهر أنه قد تَزَهَّد في أعمال الرئاسة، مُشيحا بجملته عن سَنَا برقها ووَهَج شُعاعها مُستكنا ببرد الظلال عن لوافح التَّبِعة وهَمِّ السُّؤال, ولو أنه أرسل نفسه في مدارج المناصب على مثل الحال السائدة اليوم من الحرص والتنافس لفاز منها بالسهم العظيم (باذن الله) ذلك أنه قد ظفِر بآلة الوظيفة السَّنِيّة (علما وعملا) في صدر شبابه قبل (خمسين حِجَّة) يوم كانت الابتدائية قد تسمو بِرَبِّها إلى مقام رئيس الدائرة. وعلى هذا المنهاج الذي أوجزته، مَرَّت حياة أستاذنا (أبي صالح) هادئة ساكنة كالجدول السَّلسال يجري في الروض الأَفيَح,, فلا صِيتَ له في الجريدة ولا صَوت في الإذاعة ولا صدى في الوظيفة، ولا غير ذلك من منابر الجاه وفنائر التشهير,. وعلى هذا كله,, فان صاحبنا (علي الصالح الضلعان) كان خرج من دار أهله إلى المدرسة الابتدائية غلاما لم يلبس الغترة فلما نال شهادتها دخل الوظيفة التعليمية أو قل أُدخِلَها فتىً لم يطرّ شاربُه بعد، وقد لزم المكث فيها على مر السنين حتى زايلها بحكم النظام بعد أن أشرف على باب الهرم,, فهو إذاً بين هذين العهدين خليل وزارة المعارف لم يغادر حماها في تَعَلُّمٍ ولا تَعليم,, ولقد نشرت الجزيرة بعد وفاته كلمة في بيان منزلته للأستاذ محمد السكيت النويصر ومن قبلها أخرى للأستاذ خالد المحمد الخليفة، وكلاهما يقترح تخليد ذكر هذا الرجل المِفضال,, وذلك كأن يسَمَّى باسمه أَحد الشوارع او إِحدى المدارس في مدينة الرس,, وفاءً بوفاء وإحساناً باحسان,, فما اكبر أَملَنا في أن يتحقق هذا من المعارف أو من غيرها,. ورحم الله شيخنا وأعلى مقامه في الفراديس، ورحم اشياخَه، واحسن فيه عزاء أهله وولده وفصيلته وجميع صَدِيقِهِ,, وصلى الله على محمد.