الحمد لله والصلاة على رسول الله.. وبعد.. فإن باعث هذه المقالة أن المربي الحكيم أخانا الشيخ صالح العبدالرحمن القاضي فجعنا به ريب المنون، وطواه الردى (خطفا بلا إمهال) غرة جمادى هذا، وقد دهانا لموته أسف أليم، وحزن عظيم، سالت له المذارف من أهليه وأصحابه، وضاق له أديم مقبرة النسيم عصر ذلك اليوم العبوس، مما لم أشهد أنا له ضريبا فيما أبصرت من تشييع الراحلين، فقد كانت السيارات تترى قدام نعشه ووراءه منضودة منذ استهلت من جامع الشيخ الراجحي حتى دنت من شفير القبر في الجبانة بحي النسيم؛ وذلك للمقام الرفيع الذي يسكنه في النفوس ذلك الغالي الذي فرط من أيديهم (ما بين طرفة عين وانتباهتها)، وإنه لمصابهم أجمعين؛ فكلهم فيه مُعزٍّ مُعزَّى.. وإنا لنطمع من ربنا أن ما كان من ذلك النفير الغزير في تأبين (القاضي الفاضل) انما هو امارة خير له عند ربه، وبشارة قبوله في الملأ الأعلى. ولد ابو هشام في عنيزة، وبها تلقى بعض الدراسة الابتدائية، ثم انتقل إلى الرياض وواصل حتى تخرج معلما، ثم ابتدأ العمل 1393ه مدرسا ابتدائيا ثم متوسطيا 1400ه ثم مديراً - حيناً بعد حين - لمدارس حكومية وأهلية عشر سنين منها إدارة القسم الابتدائي في منارات الرياض، ثم في الرواد، ثم في الإشراف التربوي بمدارس الحكومة. ثم إنه عَنَّ له خاطر نبيل هو (تعزيز اهتمام المدارس بالسلوكيات) لبليغ خطرها واثرها في توجيه الطلاب الوجه الصحيح، فعرض هذا على المدير العام للتعليم بالرياض - مع تصوير للمهمة على نور من تجاريبه الطويلة - فاستصوب المدير ذلك وفرغه لها في منطقة الرياض.. حتى شملت (بتأييد الوزارة) محافظات ومدناً ومناطق أخرى.. ولقد بلغت جولات أستاذنا أكثر من ألف مدرسة.. وعلى هذا فان قصارى عمله الرسمي منذ باشره حتى غادره إلى حيث لا يعود لم يكن إلا في روضات الجنات تحت قبة هذه المهنة السامية (التربية والتعليم). أما مؤلفاته الكتبية فهي:(1) المستند التربوي الجديد في النهوض بالسلوك الحميد. 2- سلسلة الأفكار التربوية. 3- أفكار مقترحة للمدارس. هذا، وإن له في رحم المستقبل كتبا كانت مقبلة ولكن (عرضت لها من دوننا كف القدر)، وله محاضرة في شريط عنوانها (لئلا يقول المعلمون يا حسرتى) وأنا لم أسمع في موضوعها لها مثيلاً متاعا وانتفاعا؛ (إذ لا يكاد ينقضي منها العجب). وللشيخ صالح همة عُليا وسعي دائب في الهدي إلى الخير والصلاح في المدارس والنوادي وفي المساجد.. وكذلك هو يعاون المحتسبين في جمع البرائر نقوداً وملابس وكتبا ونحوها تُعطى لمستحقيها.. ويقول ولده الشيخ هشام إن أباه قام برحلات إلى الخارج ارشادية وبرامج اغاثية في (الجمعيات الخيرية السعودية) بلغت أكثر من عشر. وهو إذا خطب الناس فإن شأنه (الارتجال بداهة) بلا ورقة تهديه، ويظهر أنه كان يُزَوِّر كلامه تَزْويراً متقنا، أعني (يهيئه ويثقفه ويزيل زَوَرَه أي اعوجاجه).. ثم يسكبه تلقاء الأسماع صفوا رائقا فصيح اللفظ صحيح المعنى مُفضَّضاً مُذهَّبا باللطائف والنوادر التي يقل أنها سُمعت قبلاً.. وانه لرزين معتدل الوقفة لا يعروه اختلاج بكثرة الحركة أو الالتفات أو الاشارة باليدين إلا ما يَنِدّ خَطْرة عارضة.. ولا تغشاه جهامة قد تَرْبدّ لها أوجه بعض الوعظة احيانا إذا حمي الحديد بصدق العاطفة.. ويقول لي أحد النقاد الثقات المعنيين بضبط لغتنا وسلامة أصولها إن الشيخ صالحا من أكثر طلاب العلم التزاما بقواعدها. وأخونا هذا حريص على حفظ وقته وضبطه بميزان الاعتدال في الشأن العام والخاص.. وإنه بَرٌّ وصول لأصحابه من ذوي القرابة أو الصداقة، وهو الذي يبتدر بالزورة وينشئها في غالب أمره ولو ظنها لا تُرَدّ عليه.. وهو رجل زَكِنٌ ذكي الفؤاد حسن السمت.. فيه من سماحة النفس وسجاحة الخلق ما يطيب لجليسه. هذا، وإنَّ له بين أصحابه تولُّعاً ب (المُعاياة الذهنية) من قبيل التعجيز المستطرف، وذلك أنه يلقي عليهم مُسَيئلةً بَهِيْمةً لا يهتدي لوجه مرادها غير الألمعي حديد الذكاء، فيذر المسؤولَ يجوس خلال فكره ملياً، فإن ظفر بصواب الجواب، وإلا نُودي عليه بوصمة الفشل من باب المداعبة والملاعبة الإخوانية. ومما يخطر لي الآن من الذكرى الهنية مع خليلي هذا ما كان لي وهو وبعض أصفيائنا - قبل بضع سنين - حيث شاء الله أن يخلع الدهر علينا ذات مرة حُلة زَهِيَّةً من الأنس والحبور في نزهة سافرنا بها إلى (فرعة شقراء) ثلاثة أيام أمضيناها في أحسن حال وأنعم بال، وكان أبو هشام فيها هو (العدة والعمدة) إليه يرجع الأمر كله في (ترتيب) الرحلة، منذ دارت بنا عجلات السيارة ذاهبين حتى أرست بكل منا عند داره ثائبين.. وذلك لما عهدناه فيه من البراعة وحسن التدبير، كما أن أخانا هو السراج الوهاج في المثاقفات العلمية والمسابقات، وهو كذلك نجم في (باب الامتاع والمؤانسة) فكأنه أخذ بشيء من رأي القائل: مازح وطايب ما استطعت فما الفتى من لا يكون ممازحا ومطايبا وإنه ليتخولنا - بين وقت ووقت - بمويعظة نافعة مطرزة إما بحكمة بليغة أو مثل سائر أو نادرة تضحك الثكلى.. هذا وإن الرجل اللماح المتأمل صاحبنا في باب (المناكتة) ليلحظ أنه لا يزجي الأضاحيك لاستجلاب القهقهة البليدة، أو ليزهو بيننا على أنه وحده المتفرد بصفات التعجيب والتطريب (حاش لله ثم حاش) فما هذا من جبلة ابن عبدالرحمن، ولكنها نفحات علمية تربوية تعرض له في عُباب الكلام، فيهديها إلينا طيبا رطيبا من فرائد الفوائد على هيئة الطرائف تدفع السآمة وتستدعي النباهة. وأنا مع كل هذا الذي قلته عن أخينا لا ادعي انه - هو من دوننا - قطب الرحى في سائر الأحوال، بل إنه يوجد غيره في الاخوان كلهم عالم الشرع وفقيه اللغة وأستاذ الأدب وغير ذلك.. ولقد انتفعت انا من هؤلاء الأماجيد بخير كثير ورزق حسن.. ولكن (صالح العبدالرحمن القاضي) هو في الجملة (أنيس النفوس ومضحك العبوس ومفيد المستفيد)، وأنا لو نافرته فلا أكاد أظهر عليه في كثير من أجناس الانتفاع العقلي والامتاع القلبي. وكان من توفيق الله ثم نهوض حظنا في تلك السفرة التي نعدها (من خُلس الزمان) أن الجو - يومئذ - ربيع بديع، يراوح علينا بين الغيم والمطر، ثم الصحو بالشمس أو القمر، ونحن في (ظل النعيم) بين بكاء السماء بالصيب الهتان، وضحك الأرض بالعشب العشيب، إما في رَأْد الضحى وساعة الأصيل نهاراً، أو في الليل الساجي تحت ضوء البدر المنير.. حتى إن أعضاء الرحلة وهم يعودون إلى الرياض بعد أن قضوا في الفرعة سبعين ساعة قد بدا لهم و(كأن لم يلبثوا إلا ساعة). أيها الاخوان، ماذا قلت لكم؟.. وما الذي دهاني في هذا الفصل من تأبيني صاحبي (موضوع المقالة) التي لم تنشأ إلا له وفيه وعنه.. أجل، ما هذه الحَيْدة التي صرفت قلمي عن قضيتي إلى رومانسية مائعة لست لها وليست لي؟.. أنا أصحو الآن من سِنَة الغفوة التي حرفتني عن ذكر الموت والقبور إلى مسارح اللهو والسرور، وما هذا الذي قلته هنا إلا من سوء التدبير في منهج الكتابة.. وإني أُقِرّ لكم بهذه السقطة الفنية عالما بأنه (لا عذر لمن أَقَرّ).. ومدركا أن لكل مقام مقالا.. وإني لِما كان نادم وعليه أسيف.. فاستغفر الله ثم أستعفيكم. أيها الإخوان.. أما وقد كان ما كان من موت صاحبنا، فليس لنا الا التصبر والتسلي؛ ذلك أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، وما لأحد مهما عظمت حيلته واستحكمت وسيلته أن يقدم أو يؤخر في أقضية الله واقداره مثقال حبة من خردل أو دونها.. يقول أبو الحسن اللخمي: هو القدر المحتوم إن جاء مُقْدِما فلا الغاب محروس ولا الليث واثب ويقول شيخ المعرّة: وهل يابق الإنسان من مُلك ربه فيخرج عن أرض له وسماء!! فهذا هو خلق الدنيا الذي جبلت عليه: رزايا في الأموال والأنفس تُصبّح الناس وتُمسّيهم: وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له رزية مال أو فراق حبيب وشأن المرء في الدنيا لا يخلو أبدا من أن يصاب بنفسه أو بعزيز عنده، قال الخوارزمي: أي شيء يرجو بنو الدهر في الدهر وما زال قائلا لبنيه من يعمر يُفجع بفقد الأحباء ومن مات فالمصيبة فيه وما دمنا كلنا عجزة ضَعَفة أمام هذه الفواجع فليس إلا حمد الله والصبر.. حجابا من هول الغم واحتسابا لما عند الله من حسن الثواب الموعود به الصابرون؛ ذلك أن المصيبة تكون واحدة لمن صبر، واثنتين لمن جزع.. إذا حلّ بك الأمر فكن بالصبر لوّاذاً وإلا فاتك الأجر فلا هذا ولا هذا وكذلك فإن الذين ظعنت بهم ركائب المنايا نحن على آثارهم سائرون وما نحن إلا مثلهم غير أننا أقمنا قليلا بعدهم وتقدموا هذا، على أني أرى العزاء عن شيخنا ثقيلا ودربه طويلاً يعزون عنك وأين العزاء ولكنها سنة تستحب أقول قولي هذا، وأستمطر الدعاء لاخينا سائلا الله أن يغفر له وأن يرحمه، ويسلكه في نظام الذين أنعم عليهم بالمقامات العلى في الفراديس من الجنة على ما بذله من ماله وشبابه وبدنه وبلسانه ومن وقته، وأن يصلح عقبه وينفع بهم.. هذا، وأعظم الله أجرهم وأجزل ذخرهم ولا خذل صبرهم أو فجعهم بما ينسيهم فقيدنا أجمع. كما أدعو الله بالعزاء وعظم الأجر لأمه الفاضلة وزوجه الأستاذة (أم هشام) ولسائر ذوي قرابته وجميع صديقه وأشياخه وزملائه وتلامذته. وآخر كلامي - هنا - أني لو أعلم أن رب الجزيرة (ابن مالك) يغض الطرف عني، فأمد حبل الكلام أَزْيَدَ، لأجريتُ قلمي حتى يُوعِبَ صفحة تامة، ولكن الله جعل لكل شيء قدرا، وأهل الجزيرة رسموا لكل كاتب حدا إليه ينتهي وعنده يقف.. فها أنا أذود قلمي عن القرطاس كما يذاد الغَرْثان عن الخِوان عليه أشهى الطعام.. فأذيل مقالي بما بدأته به من حمد الله والصلاة على رسوله.