,, هل من المعقول ان تظهر قصيدة العمود التناظرية بنفس الأنماط التي ظهرت بها في السابق، في السالف من الزمان؟ أنماط المديح والهجاء والرثاء والنسيب والتشبب بالنساء والبكاء واغتنام المناسبات والتزلف للاشخاص واجترار القضايا وما الى ذلك؟ هذا غير مقبول طبعاً, فلم يعد إيقاع العصر ولا وسائل إنتاجه بحاجة الى مثل هذه النشاطات. إنها فعاليات سلبية لايبررها سوى مايبرر قيم التخلف والثغرات التي تعرقل الخطى الاجتماعية فيتسلل من خلالها كتاب ونظامون ينتجون الغثاء, لكن هذا لايعني ان على الشكل العمودي ان ينحسر وان يلم امتعته ويرحل كلا! فالقصيدة العربية الثرية بايقاعها وزخمها وطاقاتها التعبيرية وتنوع بحورها وقدرتها على التكثف وقابليتها للصقل الباهر والنحت والرنين سوى تتمظهر بطرق كثيرة, منها ماسيكون ضمن تراكيب القصيدة الجديدة وضمن مقطوعات مستقلة وبشتى الطرق ولكن بغير الطريقة البائسة التي تظهر بها هذه الايام مسيئة لعظمة الشعر العربي,إن تجربة ابي الطيب المتنبي الشعرية الكثيفة جداً في لغتها وفي حيويتها والبالغة الى ذرى قصية في التوهج والعمق، هذه التجربة دفعت بالقصيدة العربية الكلاسيكية الى ذراها, ولهذا فان المصداقية لاتفارق التعبير الذي يشير الى ان المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس رغم المبالغة البادية على هذا التعبير. وسوف يظل ابو الطيب المتنبي المتناثر في الزمان والمكان شاعراً كبيراً على مستوى الانسانية وليس فقط على مستوى اللغة العربية, إنه معجزة جليلة للغة العربية, ذلك ان ابا الطيب استطاع بتعبقريته الخارقة ان يعبر عن صراعه في الحياة من خلال لغة تتأبى على الترهل والمباشرة والسطحية وتتمسك بتوهجها الادبي الخالد, انها لغة ترتقي لتعبر بتشظ هائل عن الحياة والإنسان والقلق اليومي والوجودي. (2) ومهما اشدنا بطاقة المتنبي الشعرية ولغته الخالدة وتجربته الحارقة فان هذا لا يعني اختلافاً او تناقضاً مع الكثيرين الذين يزعجهم الاطار المديحي لكثير من قصائد المتنبي ومنهم استاذنا عبدالله الغذامي الذي فجر قضية النسق الثقافي وطغيان المديح والتزلف وتكريس خرافية الفرد المرعبة وكابوسيته الماثلة حتى اليوم يومنا هذا! وماعليك سوى ان تأخذ مشواراً في بعض العواصم العربية لترى بعينيك المجردتين خرافة الصور والمجسمات وإرهاب الأهازيج وقبح الاحتفالات وكل مايسحق الكائن الاجتماعي البشري ويجعله مجهرياً ومنكساً ,,, والى آخره. لاشك ان المتنبي كان يمارس المديح لكن تفكيك هذه المسالة يجعلنا نضع الامر في مكانه المحدد وضمن إطاره دون اسقاطه على التجربة الشعرية العظيمة, لقد كان الاناء الوحيد تقريباً الذي يمكن ان توضع التجربة الشعرية فيه هو إناء الحكام والولاة,وكان المديح هو الساحة الشعرية في ذلك الزمن لكي تحفظ التجربة وتنشر وينظر اليها وتأخذ مكانها, اما اليوم فلم يعد الامر كذلك. انه زمن القبض على الجمر, حيث المهمومون بالخير والعدل والجمال هم الكتاب والشعراء الحقيقيون, او كما قال ابو الطيب: افاضل الناس اغراض لدى الزمن يخلو من الهمّ أخلاهُم من الفِطَنِ