تعتبر السرقات الشعرية وما يدخل في حكمها من أهم الإشكاليات المستمرة في الأدب العربي، منذ جاهليته وحتى تاريخه المعاصر، ومن باب الإنصاف نؤكد أن هذه الإشكالية لا تختص بالأدب العربي فقط، لكنها موجودة وبشكل شائك في كل الآداب الأجنبية القديمة والحية. في كتابه الرائع (العمدة) يقول ابن رشيق القيرواني: (إن باب السرقات واسع جداً، لا يقدر أن يدّعي أحدٌ من الشعراء السلامة منه. وفيه أشياء غامضة، وأُخر فاضحة) ويصنف ابن رشيق السرقات على عدة أشكال منها: الاصطراف والاجتلاب والانتحال والاهتدام والإغارة والمرافدة والاستلحاق، وكلها قريبٌ من قريب كما يقول. عندما نفتح ملف السرقات الشعرية، نجد أن هناك الكثير من الأسماء الكبيرة المتورطة في هذه القضية، لكن بعض الشعراء، وحتى الأدباء والنقاد، لا يرون أن هناك مشكلة في السرقة إذا ما استطاع الشاعر أن يطور في الفكرة ويضيف لها، ومن ذلك رأي ابن المعتز في كتابه طبقات الشعراء بأن الشاعر معذور في السرقة إذا زاد في إضاءة المعنى، ولذلك نجد أن شاعرا كبيرا وعظيما مثل الفرزدق يجاهر بذلك قائلا: (إن ضوال الشعر أحب إلي من ضوال الإبل). ولذلك ليس من المستغرب أن يدور لغط كبير حول الكثير من أبيات الفرزدق ومدى صحة نسبتها له، حيث إنه كان يستغل مكانته وسلطته الشعرية بأخذ ما يعجبه من أشعار الآخرين بالقوة، ومن ذلك أنه عندما سمع جميل بن معمر (جميل بثينة) يقول: ترى الناس ما سِرْنا يسيرون خلْفنا وإنْ نحنُ أومأنا إلى الناسِ وَقَّفوا عندما سمعه الفرزدق قال هذه الصفة تليق بقبيلتي، وهذا الشعر يليق بي، ووالله أما أن تدعه لي، أو لتدعنّ لي عرضك، ويقول بعض الأدباء أنه قال هذا التهديد في سرقة أخرى، وهذا ما يسمى الإغارة، وهو أخذ المعنى واللفظ معا. ولعل في هذه القصة إن صدقت تأكيدا لمقولة أحد المهتمين بالشعر، عندما قال: إن الشاعر العادي يتأثر بسواه من الشعراء أما الشاعر الكبير فيسرقهم! وقائمة الشعراء المتهمين بالسرقات تطول، لتصل إلى رأس هرم الشعر أبو الطيب المتنبي، إضافة إلى البحتري وأبو نواس والأخطل وفي العصور اللاحقة حدث ولا حرج.. ولكن هل كل هذه الأسماء ضالعة في السرقات الشعرية فعلا؟ من وجهة نظري لا، وأن هناك مشكلة تقع بالدرجة الأولى على الرواة، الذين يخلطون بين الأشعار، ويدخلونها في بعضها، وبالتالي يدخلون الشعراء في نطاق السراق دون وجه حق. في الشعر الشعبي نجد أن الكثير من الأسماء الخالدة في تاريخ هذا الشعر، وعبر عصور مختلفة، قد تواصلت معرفيا مع القصيدة الفصحى، ونستطيع أن نطلق على هؤلاء مصطلح الشعراء المثقفين الذين نجد النفس الفصيح، وحتى المعنى أو اللفظ في بعض الأحيان في بعض قصائدهم، فنجد أن أسماء كبيرة مثل: الخلاوي، بركات الشريف، بديوي الوقداني، الغيهبان المري، أبو حمزة العامري، سليم بن عبد الحي، ابن عفالق، محمد بن لعبون، عبد الله بن ربيعة، كل هؤلاء نظرا لسعة اطلاعهم، تأثروا بمن سبقوهم من شعراء الفصيح، وكانت قصائدهم إما خليط من الشعبي والفصيح، أو شعبي بمضامين وأفكار فصحى. أما في الوقت الحالي فقد تطور الوضع كثيرا، وأصبح الشاعر يتفنن في طريقة إعادة صياغة ما يقرؤه من شعر أقرانه وكتابته بشكل آخر، وفي غالب الأحيان بقيمة شعرية أقل، وهذا ما يفسر حالة عدم تفاعل المتلقي غالبا مع كثير من النصوص الشعرية، لأنه في عقله الباطن، قد سمعها من شعراء آخرين وبالتالي تنتفي صفة الإدهاش التي هي عمود الشعر وركيزته الأهم.. بشكل عام، سنطرح سؤالا مهما ونحاول الإجابة عنه: لماذا يلجأ الشاعر للسرقة ؟ وهل هناك إشكاليات حول هذا المفهوم؟ الجواب هو أن هناك عدة أسباب منها: أولا: قد لا تكون هناك سرقة أصلا، لكن المشكلة تكمن في أغاليط الرواة ونقلهم الخاطئ - كما ذكرنا - ولا سيما أن الأدب العربي ظل شفهيا إلى وقت قريب ولم يعرف التدوين إلا في العصر العباسي، ومن هنا قد يأتي الخلط بين شاعر وآخر على سبيل المثال، هم يروون هذا البيت لطرَفة بن العبد: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجلّد وفي هذه الحالة - وعلى ذمة هذه الرواية - يكون طرَفة سارق للبيت من امرئ القيس الذي سبقه زمنيا بفترة طويلة الذي يقول: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجمّل فتجد أن الفرق هو مفردة تجلد عند طرفة، وتجمل عند امرئ القيس، وفي غالب ظني أن القضية مجرد توهم، وخلط، وانحال من قبل الراوي لا أكثر، لأن طرَفة هو من يقول: ولا أغير على الأشعار أسرقها غنيتُ عنها وشرّ الناس من سرقا ثانيا: قد يقع البعض في السرقة دون قصد، أو معرفة منه، ولأن الشاعر السابق لم يترك لمن بعده شيء من المعاني المخترعة، وبقي على الأخير التوليد من هذه المعاني بحسب مقدرته، ولذلك يتساءل عنترة بن شداد: (هل غادر الشعراء من متردَّم) بمعنى هل تركوا لنا شيئا جديدا لنقوله ؟ ولاحظ أن عنترة قال هذا البيت في الجاهلية، ولك أن تتخيل طوفان الشعر الذي أتى بعده، وكم تكرر ما قيل بأشكال مختلفة، ومن هذا المنطلق يقول المتنبي: الشعر جادة، وربما وقع الحافر على الحافر.. وهذا الشيء كان قد تنبه له كعب بن زهير في قوله: ما أرانا نقولُ إلا رجيعاً ومعاداً من قولنا مكرورا أو كما قال الشعبي: ما به جديد وكل ما قيل ينعاد نفس الكلام اللي نقوله نعيده أو كما عبر أحدهم ليس هُناك شعر جديد، هُناك فقط شعراء جدد. ثالثا: الاتهام بالسرقة شيء مسيء، ولذلك يلجأ بعض الشعراء إلى هذا الاتهام في إطار مخاصماتهم ونقائضهم للتقليل من شأن منافسيهم ولذلك قال جرير للفرزدق في النقائض: ستعلم من يكون أبوه قيناً ومن كانت قصائده اجتلاباً ليرد عليه الفرزدق بأنه هو من يسرق قصائده وينسبها لنفسه. رابعا: في بعض الأحيان يكون لكتاب التاريخ الأدبي، ونقاده، مواقف شخصية مع بعض الشعراء تجعلهم يصمونهم بالسرقة أو يبالغون كما فعل الأصمعي الذي يقول إن تسعة أعشار شعر الفرزدق مسروق، ولا شك أن في هذا تجن كبير، ومجانية كبيرة في الطرح، وتصفية حسابات أكثر من كونها قناعة أدبية خالصة.