يعتبر (الحنين) إلى الماضي أحدَ حالات (النكوص) الذي يشكّل أعلى حالات الاضطراب الوجداني. والماضي ينبغي أن يظلّ في ذاكراتنا كشيء ملهم أو كخبرات متعدّدة نستعين بها في السير الذي اضطررنا إليه: السير مع اتجاه العصر وبقوّة روحية لا تحيلنا إلى نسَخ ٍ من الآخرين، ولكنّ تمسكنا بجذورنا التي نتشارك مع أمم وشعوب أخرى بالانتماء إليها عاطفياً، يجعل من حال النكوص حالةَ (استرجاع ومقارنة ونقد) تجعل منا قوماً لم نقطع صلاتنا بالماضي من حيث هو نمط دافئ من العيش الكريم، لا ينتهك ثقافتنا ولا يمحو ما يزيّف بعضنا من فضاءات مفتعلة، تعطي الحياة أكبر من حجمها الحقيقي، وأكثر من كونها امتحاناً لنا، يتمحور حول المضمون الحقيقي للحياة الإنسانية الذي لا يتعدّى لدينا كمخلوقات تمتلك أهم عضو في الوجود هو: العقل، وإذْ نغلق هذا الباب على أنفسنا نصير إلى هامش الهامش!، إذْ ما قيمة حياة نمطية تسير بطريقة ميكانيكية فتطوي معها الزمان، ونحن نتغافل عن حقيقة هي أكثر أهمية من أية حقائق أخرى؟!. إنّ الوجود هو شيء صعب!، حين نتأمل كم يضطرنا الحفاظ عليه من جهود هي أغلب الأحيان تظل - ذرائع - لنا، لكي نمضي مع الذين يمضون وهم يُخْفون القلق الوجودي ويحاولون (تسطيح) الوجود، بترديد صوت (أبي العلاء المعرّي) الذي لا تعبّر مأساته التي شكّلتها العزلة والوحدة والوحشة وفقدان أغلى حواسه (البصر) سوى مسيرة إنسان ما، ينبغي ألاّ نسلّم بمقولاته عن الوجود الذي يرى في شعره المميّز والعبقري، أنه مجرّد تكرار للأيام كما تتكرر الفصول الأربعة، وكما تتنقل الحياة من مناخ إلى آخر، وكما تتداعى الأحداث التي نحن - دوماً - لا نشارك فيها إلاّ من باب شهود العيان الذين يشعرون أنّ موقف المشاهدة هو موقف العقل. فالعقل لدى أمة تزدحم أجندتها بالتناقضات والمواعيد مع الحروب، وكل حالات البحث عن الذات التي تكتظ بها أمة تعترف، مثلما نعترف نحن، بأنها أكثر أمم الأرض تعرّضا للتهديد الذي يستهدفها، بسبب أنها تنطوي على أفكار ونظريات وقيم لا تعرفها الأمم الأخرى التي ليس لها تاريخ طويل من: الحيرة والحزن والانتصارات والهزائم والمرارات، ما جعلها في نظر (الآخر) أمة تعوّق مسيرة الفرد في طريق التزوّد من أشكال التحضر والتمدن، التي تجعل من الآخر غير معترف بقصوره وعجزه عن إجابة أسئلة القلق، ومتماهياً مع المادة التي ينحصر معنى وجودها في كونها (مادة)! أي: إحدى تمظهرات الوجود ليس إلاّ. ومع اختلاف مصير المادة النهائي الذي يكون إما التبخر أو الحياة في الموت أو كل نهايات قاطني الغابة: السادة والمسودين والطفيليين على موائدهم، وهي مجرّد نهاية لأي شيء غير روحاني - أي غير متفرّد وواع ٍ لهذا التفرّد - بعدّة دلائل مثل النزيف والتسمم والمناخ والقتل على يد آخر لا يعرف ماذا فعل، حتى حين يرى غريمه يغرغر أنفاس وحشرجات الرحيل. علينا - وهذه مقالة لا: خطبة! - أن نمدّ بصرنا للأبعد بما يجعلنا قادرين على تجاوز ذكريات الهزائم وأعداد المنتحرين ومعتقلي المصحات النفسية، وقتلى حوادث المرور التي هي دائماً أخطاء الذين يقودون مركباتهم متصوّرين أنهم لما يزالوا يقودون جمالهم ويصعدون وينزلون وهم على ظهورها، وليس ثمة احتمالات متطيّرة - متشائمة - بل هم يرفعون أصواتهم بالحداء ويعيشون ذواتهم النقية من الأفكار المسبقة. حين نتعامل مع حياتنا على أنها مسئولية ملقاة على كواهلنا ينبغي التوغُّل في ما وراء الكلام الشفاهي الذي يُدَوّن فيما بعد وهو - شفاهياً ومكتوباً - مجرّد كلام ! لا يضع في اعتباره قيمة للمتلقين، ويكتفي بإعلان نفسه فرداً في جماعة مهمّتها: الكلام ! وما يحدث في العالم اليوم هو شكل من أشكال البحث عن ذوات مفقودة، ففي حين يذبح الجنود الصهاينة أناساً مبحرين لهدف مثالي وغير مزيف، وهم يحاولون وصول غزةالمحتلة المحاصرة، ينسى هذا بخروج البرازيل من منافسات كأس العالم الأخيرة صفر اليدين، ويتحوّل الإعلام العربي إلى متفرج على حدث لم يشارك العرب فيه، لا لأنهم لا يجيدون لعب الكرة ولكنّ لأن ذهنية المواطن العربي هي أدنى من أن تعتبر كأس العالم مجرّد تمارين بين دول يجمعها التاريخ والكينونة، إلى درجة أنّ مصريين كانوا حاضرين مباراة للجزائر التي وصلت المنافسة الأكبر في العالم بقدرات لاعبيها وروحهم، وكانوا يرفعون علم الدولة المنافسة للجزائر، متناسين أنّ المصري هو عربي قح، وأنّ مواقفه الأخوية والشريفة لأنّ الإعلام المصري صوّر للشعب أنّ الجزائر خلفكم وكأس العالم أمامكم ! فهل يحرمكم الجزائريون من الشرف الكروي الذي هو أهم شرف للعربي هذا الزمان! إنني أحاول - بلا جدوى - النسيان! ولكنني أعيش الآن أقصى درجات العزلة حسب تعبير الطاهر بن جلون، الذي يعرّف المثقف بأنه ذلك الكئيب الذي يحيا قرب المصحة النفسية بسبب فقدان أي أهمية لعمله، فهو - إذن - في أقصى درجات العزلة! كم أنني مستوحش كذئب! * حائل