يأتي هذا المقال ختاما لسلسلة المقالات التي تناولت فيها ما أسميته عينة من شجن المواطن وهي مجرد رمز لعدد من القضايا الاجتماعية التي تشغل بال المواطن من قضية حرية التعبير وتخير كيفية كريمة للطرح الصحفي إلى قضية الأمن السكني مروراً بالأمن المعيشي والأمن الصحي ووصولاً إلى الحاجة إلى المشاركة الاجتماعية و السياسية باعتبارها مثلها مثل الأمن المعيشي وسواها من الضروريات الأمنية مطلب تنموي وإصلاحي من أجل الاستقرار والتغير معا. وقد جاء تخيري لهذه العينة ليس بناء على رأي شخصي أو ميول ذاتية ولكنه جاء بناء على معايشتي المجتمعية لمجتمعي كمواطنة سعودية وبناء على متابعة قريبة أقوم بها ككاتبة وباحثة معنية بالشأن المعرفي والوطني لحركة التحولات بالمجتمع السعودي وما يسبقها أو يتساوق معها أو يليها من قرارات سياسية على مستوى الدولة أو ما يجيء فيها من طروحات مطلبية على مستوى المجتمع. ومن هنا فإن الحديث عن هموم المواطن السعودي وقضاياه المختلفة سواء ما جاء منها في العينة المقالية أو سواها الكثير يكون ناقصا ويفتقد للصراحة والشفافية بدون الحديث عن موضوع المشاركة الاجتماعية والسياسية. فهي أحد القضايا الوطنية الهامة ليس فقط باعتبارها مفتاحا رئيسيا من مفاتيح الإصلاح بشكل عام ومشروع الملك عبدالله للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي بادر إلى طرح خطابه منذ كان ولياً للعهد بشكل خاص, ولكن بالإضافة إلى ذلك فإن أهمية قضية المشاركة الاجتماعية والسياسية تأتي من واقع الحال الرسمي والاجتماعي الذي لا يبدو أنه استطاع حتى هذه اللحظة من حسم الموقف منها. وكأن الأمر أنه لم يتم بعد (ولا نقول لن يتم) التوصل إلى الصيغة التي يمكن أن تجري بها هذه المشاركة, ولا جرى العمل على تحديد القنوات والآليات للشروع في شرعنتها. بل إنه حتى الحديث عن أشكال المشاركة البسيطة على المستوى الاجتماعي وليس السياسي, كفسح وتنظيم تأسيس الجمعيات والنقابات المهنية والمشاركة في المجالس البلدية للجنسين وإدارتها بالانتخابات لا يزال حديثاً متواضعاً, لا يتسم بالوضوح الكافي المحفز على المشاركة. وفي هذا فإنني وإن كنت لست من مؤيدي ادعاء ما يسمى ب»الحياد الموضوعي» الذي قد لا ينتج عنه إلا نفض اليد من القضايا الساخنة بحجة الحياد فإن البحث النقدي لمجمل القضايا التي طرحت سابقا ولقضية المشاركة تحديداً لا يعني تحميل الدولة وحدها كما في التنظير التقليدي مسؤولية مثل هذه القضايا وتبعاتها. وهو لا يعني أيضا تبرئة ساحة المجتمع من المسؤولية عن مراوحة هذه القضايا. وهذا خلاف للمنظور الذي يسطح الطبيعة المركبة للواقع وكأن المجتمع برمته مجرد قطع شطرنج تحركها أيدٍ عليا أو كأنه مجرد «رعية» أو مجموعة «رعاع» لا حول لها ولا قوة ولا رأي في شؤونها. إذ إن مثل هذا الافتراض النمطي «القديم» ليس خطأ في حق الدولة بل هو خطأ في حق المجتمع. وهو على وجه الدقة خطأ في حقهما معا, حيث من غير الدقيق في عالم اليوم المعاصر النظر إلى علاقة المجتمع بالدولة كتابع ومتبوع, بل إن في ذلك تعارضا مع أبسط مبادئ مفهوم المواطنة الذي لا يقوم بدون استبدال علاقة التواكل والاتكالية على الدولة بعلاقة الشراكة معها وتحمل أعباء المشاركة السياسية والاجتماعية. وهذا ليس فقط من باب حقوق المواطن على الدولة ولكن أيضا من باب حق الدولة على المواطنين. لذا فإن الدراسات الاجتماعية اليوم من منظور علم الاجتماع السياسي النقدي لا تخلي ساحة المواطنين وبعض القوى الاجتماعية النافذة من التواطؤ على حقوق وواجبات المجتمع في الاضطلاع بالمشاركة الاجتماعية والسياسية وتحمل أعباء ذلك نظير بعض المصالح النفعية الفئوية أو الشخصية الضيقة وكمقابل للتخلي عن دور الشريك المسؤول والقبول بأدوار سلبية متفرجة من أبرز مظاهرها تجنب إثارة موضوع المشاركة والتهرب منه وعدم تأييد مشروعية مطلبيته. وما ينتج ذلك من التقصير عن اتخاذ أي مبادرة أو الاجتهاد في تقديم الحلول للمشاركة في مواجهة أي من الأزمات أو الإشكاليات المصاحبة للتحولات الاجتماعية. وكذلك ما ينجم عن مثل هذا الموقف المنسحب من اختلالات في علاقة الدولة بالمجتمع ومن حالات تأثير على الاستقرار الاجتماعي كما حدث مثلا في موقف مواجهة موجة الإرهاب قبل وإبان حقبة 11 سبتمبر أو التهديدات الخارجية بعد الحدث مباشرة. من التكرار الذي أصبح مملا القول بأن تأسيس ثقافة المشاركة الاجتماعية والسياسية ونشر الوعي بها ومقاومة نواقضها سواء كانت شرائح اجتماعية منتفعة أو منظومات فكرية وسلوكية رعوية اتكالية, وكذلك جعل المشاركة عملا مشروعا متاحا لمختلف القوى الاجتماعية وللنساء والرجال والشباب منهما خاصة بإيجاد مساحة لممارستها في إطار من الضوابط القانونية المنظمة أصبح في عالم اليوم داخليا وخارجيا من أسباب تعزيز الانتماء الوطني وشد أواصر الوحدة الوطنية. وترجمة ذلك ارتفاع الحس الوطني والمحافظة على المال العام والحرص على الاستقرار والعمل السلمي على التغيير الإيجابي. فهل نريد وصفة صحية للأمن الوطني أبسط من قرار سياسي شجاع يفتح الباب للمشاركة المجتمعية في حب الوطن والعمل على نهضته يدا بيد دولة ومجتمع. أما لو سأل سائل في الختام ببراءة أو بدهاء ما هي المشاركة الاجتماعية والسياسية المنشودة فإنها لا تعدو في المجتمعات النامية التي لم تتبلور فيها صيغة قانونية تعاقدية لعلاقة المجتمع بالدولة أن تكون مجرد أبجديات أولية نحو حلم إقامة علاقة شراكة وكرامة سلمية بين المجتمع والدولة وبين القوى الاجتماعية ببعضها البعض. ومنها أن يكون هناك تقنين للعلاقة و تمثيل يعبر عن تعددية المجتمع في الشأن العام الداخلي والخارجي, وأن يكون المواطن على دراية وله صوت في كيف تدار شؤونه وفي أي الأوجه تصرف الأموال وماذا يتعلم أطفاله وكيف يشارك في عمل تطوعي لصالح الحي الذي يقيم فيه, وكيف يتفاعل مع مجتمعه تفاعلا إيجابيا دون أن يتهمه أحد ب»اللقافة» أو ينصحه بالابتعاد عن «عوار الراس». هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد. [email protected]