لن يُدرك أننا اليوم بالمجتمع السعودي نعيش نوعاً من ربيع حرية الكلمة إلا من لُدغ فيما مضى من جحور التحجير والتحفظ المفرط على مساحة الرأي. فلو قامت دراسة كتلك التي قام بها د. علي القرني في بحثه عن مسار حرية الصحافة لوجد أن هناك فروقاً كمية ملموسة. وهذا ينسحب أي الاتساع النسبي بالطبع على مساحة الرأي. فلو قامت دراسة كتلك التي قام بها د. علي القرني في بحثه عن مسار حرية الصحافة لوجد أن هناك فروقاً كمية ملموسة. وهذا ينسحب أي الاتساع النسبي بالطبع على مساحة الرأي. ونلمس أحد مؤشراته في الكتاب التحليلي للأستاذ عبدالعزيز الخضير الذي بإذن الله ستكون لي وقفة مطولة معه؛ إذ إنه في رأي السيسيولوجي يشكل محاولة جادة لفتح باب جديد في تناول الواقع السياسي الاجتماعي بالمجتمع السعودي من منطلقات الفكر النقدي للعلوم الاجتماعية. وهذه المطلات على فضاء الحرية تخلق مناخاً لأن نراجع بعض أساليب ونوع قضايا المجتمع التي نقدم لتكون في مستوى مسؤولية الكلمة التي تعين على توسيع الآفاق. ولذا فإنني مرة أخرى أكرر رأياً طالما اعتدَّت به الصحافة الحرة المستقلة في بلاد الله الواسعة وبخاصة تلك التي تعتبر الصحافة سلطة للمواطن وليست سلطة عليه أو مجرد منبر لترويج مواد تجميل الواقع أياً كانت الجروح أو مواطن الخلل. وهذا الرأي هو الرأي القائل بمسؤولية الصحافة وكتابها في التعبير عن صوت المواطن بشفافية وصدق وفي تمثيله ليس بحياد موضوعي مدعى بل بانحياز للحق أمام الحكومة وعند القيادة وفي تلك الجهات المسؤولة عن إدارة قضاياه المختلفة سواء في مجال الخدمات العامة أو في مجال نشاطه المعيشي واهتماماته الوطنية. وهذا بالطبع لا يكون ممكناً وليس مجرد أضغاث أحلام لحفنة من الحالمين بأن بالإمكان مساءلة القائم وتحقيق أفضل مما كان إلا بحد أدنى من الشروط التي ليس لمجتمع اليوم أن يتهاون في توفيرها إلا إذا كان راغباً عن عمد أعمى سياسي عن تطوير نفسه وتمكين قواه الاجتماعية من المشاركة في التطوير والتعمير بل وفي تقاسم مسؤولية التقصير أو المراوحة أو الانتكاسة لا سمح الله. ومن نافلة القول كما يقول جهابذة الكُتاب عادة, القول إن من تلك الشروط توافر الضمانات القانونية في مجال حرية الرأي وفي مجال استقلالية منابر التعبير وفي مجال الاعتراف بحق المواطن في شخصية وطنية اعتبارية تتمتع بأهلية قانونية لذلك باعتباره الثروة الوطنية ورأس المال الحقيقي لبناء الأوطان وباعتبار أن الأوطان لا تدار إلا بالمشاركة الوطنية والاجتماعية التي تتيح لكل مواطن موقعاً وتضع على عاتقه واجباً لممارسة الشراكة الوطنية. والسؤال الذي قد يسأله القراء كما أسأله نفسي عند هذه النقطة من المقال هو: هل حقاً كنت أحتاج لكل ما تقدم لأمرر كلمة صغيرة تتناول أهمية وكيفية تناول الصحافة لهموم المواطن وانشغالاته المزمنة في بعض شجون الشأن العام أم أنها عادات ما قبل اهتزاز موقع الرقيب لاتزال تتحكم في مفاصل أصابعي فأكتب كما كنا نفعل إلى ما قبل عشر سنوات وأصابعنا تتقطق حنقاً من «جبننا» ومخافة قسوة المقص التي لا ترحم «شجاعة الشجعان» وتعتبرها رعونة يجب إعادة أصحابها لحظيرة المنتوف من أجنحة الكلام؟ على أني قبل أن أستطرد في موضوع المقال لابد أن أعترف بتواطئي مع بعض الأساليب الصحافية غير المهنية وهي أن عنوان المقال يحمل دلالات أعمق وأبعد من الطرح المحدود لما جاء في المقال الذي تحتاج أطروحته لدراسة محققة ومعمقة ولكن وهذا ليس تبريراً مقبولاً, كل المشاريع الكبيرة تبدأ بهاجس أولي. لقد مل المجتمع ومل مجتمع القراء والكتاب بأن لا يخرج صوت المواطن من صحافتنا إلا متحشرجاً مدججاً بعشرات الاعتذاريات ومثلها من مدائح المسؤولين بشكل معاريض استرحامية في أحسن الأحوال إن لم تكن استجدائية ليطرح هذه أو تلك من هموم المواطنين العامة والخاصة على حد سواء. وبإلقاء نظرة على «الصفحات المعنية» ببعض تلك الشؤون من هموم أو مشاغل المواطنين في صحافتنا بل وحتى بتفحص بعض المقالات التي يفترض أن تقوم بمعالجتها معالجة تحليلية في إطار وطني عام سنجد عينة مفزعة لتلك المعاريض بمفهومها التقليدي شكلاً ومضموناً. ومن ذلك فإن الحديث على سبيل المثال عن قصور في الخدمات الصحية أو عن عجز المواطن عن التمتع بتلك الخدمات على قدم المساواة غالباً ما يقدم كمعروض عن تلك أو هذه من الحالات التي لم يجد فيها مواطن سرير بالمستشفى ومثلها الحديث عن ضائقة مديونية مرهقة مهددة بالسجن لمواطن عاطل عن العمل أو مواطن مهدد بالطرد من مسكن مستأجر أو امرأة تخلى زوجها عن النفقة على الأولاد بعد الطلاق أو بدونه. وهنا أؤكد بشدة بأني لست بطبيعة الحال ضد تلك الثقوب الصغيرة التي يحاول من خلالها مواطنون ضاقت بهم الحال والسبل تسليط خيط من «ضوء الصحافة» على أوضاع شخصية مزرية ولكني أراها نوعاً من الامتداد لثقافة المعاريض التي قد يقف بها أصحابها عند بوابات الوزارات أو عند الموسرين وهي بالتالي عينة لدور طالما اضطلعت به الصحافة اضطراراً أو تماشياً مع مقتضيات مرحلة من عمر المجتمع في محاولة لمجاراة تلك الأنماط التقليدية لإيصال صوت المواطن للمسؤول, ولكن هل يصح أن تستمر الصحافة إلى اليوم في تبني ذلك الأسلوب النمطي. وما يجدر بالتنويه هنا هو أن تلك «العينة الصحفية» الموضحة أعلاه لا يجري طرحها في الصحافة مع الأسف على أساس أنها جزء من هموم المواطن التي تشكل قضايا اجتماعية ملحة ولكن غالباً ما يكتفي بطرحها المجزوء على أنها «معاريض» لحالات خاصة ليس إلا, مما يمتص الحرج من وجودها و»يطبعها», وبما يكشف عن تحجيم دور الصحافة كسلطة رابعة في دور «عرضحالجي» يكرس العلاقات التقليدية بين المجتمع وبين الدولة بأشكالها القديمة. والعقدة أن هذا الأسلوب «العرضحالجي» التقليدي الذي تتبناه الصحافة إن لم نقل تقوم عليه نادراً ما يعود على من يعانون من تلك الأوضاع بجدوى فعلية تحل المسائل أو الهموم العالقة لأصحابها إلا بمبادرات فردية محدودة من بعض ممن قد تقع بين أيديهم الصحيفة أو تثير عطفهم القضية من الأمراء أو الموسرين أو حتى المسؤولين من جهات الاختصاص المعنية. وهذه الاستجابة تكون في الغالب من باب «النخوة» أو «الشهامة الشخصية» لتلك الهموم المعروضة في الصحافة بأسلوب المعاريض. وليس السبب في ذلك إلا أن طبيعة أسلوب المعاريض في طرح هموم المواطن لا يصلح لبنية دولة المؤسسات والأجهزة الحكومية ببنيتها البروقراطية التي ليس من طبيعة تركيبتها التعامل مع هموم المواطن من خلال أسلوب المعاريض. وفي تأمل هذا التناقض وهو واحد من تناقضات لا تحصى بين محاولة الجمع بين وجود هياكل عصرية لبنية الدولة والجهاز الحكومي وبين «الحفاظ المستميت» على العلاقات التقليدية بين المجتمع والدولة والاحتكام للقيم «القبلية» في العلاقة بينهما والتردد المريع في خلق بدائل لذلك على مستوى المجتمع «كما يظهر على سبيل المثال في تباطؤ مجلس الشورى في استصدار مشورة تقترح نظاماً لقيام مؤسسات المجتمع المدني الأهلية» بحيث يكون للمجتمع مؤسساته وجسوره العصرية للعلاقة بدولته وقيادته. وفي هذا لا بد لكل مواطن مخلص لدولته ومجتمعه معاً من التساؤل: ألم يحن الوقت في هذه المرحلة من التحولات الإيجابية بالاستناد على مشروع الملك عبدالله للإصلاح وبأخذ مأخذ الجد ما تؤكد كثير من التصريحات الرسمية من أفواه مسؤوليين على مستوى قيادي من سلطة الدولة, لأن نعيد النظر في طريقة طرح هموم المواطن بشكل أكثر مهنية ومباشرة وأساليب عصرية وأقل «تقليدية» و»شخصانية» في التعبير عن واقع الحال وعن هموم المواطنة والمواطنين؟ وفي علاقة هذا التساؤل بالصحافة يكون السؤال: إلى متى تقدم الصحافة قدماً وتأخر «قدمين» في تبني هموم المواطن في عمقها الاجتماعي كقضايا رأي وضمير عام؟ وهذا يفضي لسؤال أكثر تعقيداً وهو سؤال استقلالية الصحافة وسؤال تطوير الصحافة ليس على مستوى البنى التحتية من مبان فخمة وطباعة وتواجد على الإنترنت وشفافية في الإعلان عن نسب التوزيع وإدخال عنصر المرأة بتلك «الطرق المستقطعة», بل وأيضاً في مجال ماذا تمثل ومن تمثل الصحافة وبأي كيفية؟ هذا وإن كنت أنهي المقال بإضافة أخرى سوى المقدمة التي أضفتها أيضاً على المقال بناء على توجيهات سعادة رئيس التحرير من خلال تجربته الطويلة والعميقة في إدارة سجالات الطرح في كتابات الرأي بأن الصحافة لتكسب مزيداً من مساحات التعبير التي تتيحها القيادة السعودية اليوم لابد أن تكون طروحاتها دقيقة وموضوعية في تناول القضايا وهموم المواطن التي تجري محاولة التصدي لها ومعالجتها في الخضم العام لمشروع الملك عبدالله حفظه للإصلاح. أما هموم المواطن التي كانت شرارة هذا المقال فسأدرب نفسي و»أجرب فيها» على طرح عينة منها الأسبوع القادم بأسلوب أرجو أن يستعين ب»الحرية المتاحة» لأن يكون شفافاً وموضوعياً ومعبراً حقاً عن صوت المواطن دون حشرجات بإذن الله.