لماذا الحنين؟! أليس علم النفس يسميه مرضا ويختم فوق جبينه (النكوص)؟! في الممرّ الطويل البارد بفعل مكيفات (سبيليت) يتوزع رجال كثيرون يملؤون الكراسي المخصصة لهم ولآخرين لن يجدوا سوى البلاط الذي يسبب الدوار وزغزغة النظر. لكنّ صلاح عبدالصبور قال منذ زمن جميل (هناك شيءٌ في نفوسنا: حزين! قد يختفي، ولا يبين لكنه: مكنونْ! شيء غريبٌ غامضٌ حنونْ لعله التذكارْ تذكار يوم تافهٍ بلا قرارْ أو ليلةٍ قد ضمّها النسيانُ في إزارْ) هو الحنين ذلك: الحزن!. في الممرّ الطويل قال رجل: كنا ذات زمن لنا رائحة واحدة! قال رجل آخر مبتسما ومتوقعا الإجابة: والآن؟ هل تنوعت رائحتنا؟ نعم! ألا تشمّ رائحة هؤلاء الشباب يغدون ويروحون نافثين روائح العطور التي أحيانا تضر بالمرضى! وهنا خرج الدكتور (أزهر) القصير القامة المصاب ب (إلزهايمر) فقال رجل: انظروا الدكتور أزهر! أووه. هذا لم يعد طبيبا! إنه بحاجة لمن يعالجه! يضحكون، بينما يتمتم آخرون (اللهم حسن الخاتمة)، آمين. وتعود إلى الزمن الجميل. يوم كانت المدن: مفتوحة! متسعة وطيبة ولا تخفي شيئا بقدر ما تحتفظ لك بالمفاجآت الجميلة واللامتوقعة. المدن التي ولدت مدنا!. حيث تكثر دكاكين (الخردوات) وحوانيت البقالة وبسطات الخضار وفي زمن ما صارت المدينة هي تلك الملخصة بشارع (الخزّان) وفيه مخابز المختار ومكتبة الدخيل (الوطنية) وحارة السويدي وحديقة (الفوطة) ويؤدي بك إلى شارع (الوزير) الأرستقراطي، حيث متاجر الملابس النسوية والعطور والأحذية والساعات ومنصات (الشاورما) حيث يندر أن تكتفي بزيارة منصة واحدة. ثم هنالك: الوجه الآخر للرياض! البطحاء. العالم الذي يبدو مفتوحا لكل التوقعات. الناس الذين يزدحمون ويقفزون الأرصفة القصيرة ويتوقف سيل من باعة الطاولات المتنقلين. طاولة تشبه طاولة المخبز. لكنّ بها عددا غير قليل من الساعات والكبكات والمرايا الصغيرة وعلبة ال CRAVEN الأحمر المفتوحة حيث يتم البيع بالفراطة (النقود المعدنية): كل سيجارة بربع ريال! والمدخنون المختبئون والرجال الذين بلا عمل. وكان هنالك في وسط البطحاء باعة (كتب الأرصفة) حيث اقتنيت (دوستويفسكي) و(نجيب محفوظ) و(إبراهيم الناصر) بغبطة. وهناك شارع المطار!! وما أدراك ما شارع المطار؟ هنالك تنتصب الوزارات، الحكومة كلها، تنظر نحوها بخوف واحترام. وهنالك خلف الشارع الطويل الطويل: المطار. حيث تلمح الطائرات الفوكرز والبوينج. والتكاسي الصفراء وسواقوها ذوو الشمغ السوداء والحوارات النشاز التي تجرح رقيّ المكان وهدوءه الأرستقراطي وتدور بين سائقيْ أجرة مطعّمة بالألفاظ الرديئة التي تجبرك على ليّ بوزك فهو الوحيد الذي يمكنك ليّه (دون مساءلة)! ولم تدم الحال! عادت اجترارات المفردات (دوام الحال...) و(لا تبقى الدنيا...) و(سبحان الذي يُغيّر ولا يتغيّر). أخذني قريب ما لرؤية منزله الذي قيد الإنشاء في (العليا). ومشينا وبعد خريص فقدت بوصلتي. رأيت الحارات المبتدئة والفوضوية ومشينا طويلا طويلا وصرنا في (البرّ): الخلاء. وأشار قائلا: هه. تلك هي فيلتنا! كان فخورا. بينما أنا منذ تلك المرة لم أعدْ أعرف الرياض. يا إلهي كم كبرت!. الجسور العملاقة والشوارع التي لا يسير فيها أحد. وصرت أضيع في (الفنادق) في الرياض! وكتبتُ مرّة (نحن الشماليين: نضيع في الردهات الكبرى للفنادق الكبرى!) وإن تكن الرياض هكذا فلأن المدن كبيرة بتاريخها ووضعها واستقرارها؛ ولذا وقفت فوق مرتفع قرب مكتبة (جرير) وكانت السيارة رافعة أنفها فرأيت لآلئ من الضوء الأحمر والأزرق واللازوردي. كم أنت عظيمة يا: رياض! أنت وردة الصحارى المتألقة السهرانة الممتلئة بالسيارات الترانزستور والعمال الذين يسيرون بهدي الله. ليست الرياض مدينة عادية ولا تقترب من مفهوم المدن الكوزمبوليتية؛ لأنها كانت تنمو حسب امتداد أحجام ساكنيها وما يخبئون معهم من دراجات للصغار، وتنمو عندما يتكاثر جماهير الهلال والنصر وتشاد الملاعب، وكلما انفتح شارع انفتح باب (رزق) لمواطن كان ينتظر الباب. وكلما التمعت الشوارع زاد هدير الآلة الإعلامية من صحف وقنوات فضائية ومساجد ومراكز لبيع الصحف وأسواق مخصصة للأسماك وأخرى مخصصة لتمشي عليها الحوامل وهنالك عوالم (موازية) بنفس الاتساع. ونفس الاضطراب الذي يعتريني حالما أشعر ب: ضياع! وتستمر الرؤى فاستحضر وجوها طيبة كعبدالله القرعاوي الأب وعبدالله نور ومحمد الشدي وخالد المالك وصالح الصالح ومسافر ذلك الماطر العذب وعبدالله الماجد وإسماعيل كتكت وعبدالله السليمان وعلي العفيصان وأحمد السعد وعلي إبراهيم وسعد الحميدين وكل الوجوه الطيبة التي زينت ذاكرتي ببساتين من الورد والعطر و.... الحب.