كلما ارتفعت وتيرة الأزمات والحروب، اتسعت المساحة المتاحة للنشر عن الشئون العسكرية ليس فقط في مجال التغطيات الإعلامية لأخبار الحروب، بل تتعداها إلى جوانب مهمة تكوين الجيوش ومقومات احترافها وغير ذلك. وتعد الأنظمة العسكرية بصفة عامة من أكثر الشئون التي تؤثر في كفاءة المؤسسة العسكرية، وتسهم في تحقيق النتائج وحسم المعارك، وبالتالي تؤثر في حياة ومصير شرائح كبيرة من الناس. ورغم قلة ما ينشر عنها، فإنه يدور حول الأنظمة العسكرية حراك كبير وعلى مستويات متعددة يشترك فيه الكثير من المهتمين من مختصين وغير مختصين. وللإطلاع على الأنظمة ومعرفة علاقتها ببعضها والمقارنة بينها، فإن معظم الأنظمة العسكرية لكثير من الدول منشورة على مواقع المؤسسات العسكرية، وغيرها من المواقع العامة؛ وهي متاحة للاطلاع والفائدة عبر شبكة الإنترنت بما فيها من تعديلات. وتعتبر معلومات الأنظمة العسكرية العامة في مجملها شبه حقوق عامة متاحة للجميع، وهي متشابهة في عمومياتها في معظم دول العالم، ويحق أن يطلع عليها الجميع ويتحاور بشأنها المختصون. وقد شاركت مؤخرا في ندوة صحفية عن بعض جوانب الإدارة العسكرية وتلقيت بعض التساؤلات التي عادة ما تثار حول بعض المفاهيم في الإدارة العسكرية العامة، وخصوصا ما له علاقة بالأنظمة واللوائح وطبيعة تنفيذها ومتطلبات تعديلها. وسوف اجتهد في هذه المقالة التي تنشر على جزأين لأعرض وجهة نظري الشخصية للإسهام في تطوير مفاهيم الاحتراف العسكري بتسليط الضوء على فلسفة الإدارة العسكرية بصفة عامة وبما لا يخص مؤسسة بعينها. فالوحدة العسكرية أو الأمنية المحترفة يفترض أن تعمل في إيقاع متناغم وهي تتمثل تلقائيا مجموعة الأنظمة الإدارية والتطبيقية كجزء من طبيعة عملها اليومي داخل المعسكر وخارجه. ويتوقف تعديل نظام أو إلغائه أو استحداث نظام جديد على الحاجة له، وعلى مستوى تقييم جاهزية وكفاءة الوحدة أو المؤسسة العسكرية برمتها. أسئلة متعددة منها مدى الرضا التام بالمستويات في الواجبات وفي الحقوق؟ وهل توجد ثغرات إدارية أو نظامية؟ أم أن كل الشئون الإدارية على خير ما يرام. بداية أود الإشارة إلى أن هنالك تسارع في تطور النظريات الإدارية ولذلك ارتباط بالتحولات العامة، فنظرية فن الحرب يتأثر بها الفكر الإداري العسكري. والمؤثرات الطبيعية تجعل التغيير والتطوير في الأنظمة العسكرية مطلبا ضروريا. وتنظر المؤسسات العسكرية في شؤون التطوير الإداري حسبما تمليه جملة من المؤثرات منها: قدم الأنظمة، وبروز الحاجة للإضافة أو الحذف أو التعديل. وحينما يكثر التعديل الجزئي يختل النظام وتتضح الحاجة إلى إعادة النظر في كامل النظام. وفي حالات أخرى يتضح بعد تطبيق الأنظمة وجود ملحوظات حول عدم التجانس في بعض الجوانب، كأن تعطى حقوق وميزات لكادر وظيفي وتحجب عن كادر أخر دون مبرر منطقي، أو بروز شؤون تطبيقية لا تغطيها الأنظمة. ثم إن تطور علوم الإدارة وتطبيقاتها، والتقنية ومخرجاتها، وكذلك العلوم العسكرية ومستجداتها، وبروز تنظيمات عسكرية وأمنية جديدة، وتغير البيئة المحلية والإقليمية والعالمية، تضيف مسببات أخرى للتغيير. وتجد المؤسسات العسكرية في سعيها للتميز والاحتراف أنها أحيانا في مواجهة الحاجة، أو الندرة، أو الكفاءة، في منظومة المؤسسة العسكرية المادية والمعنوية ولا بد أن تلجأ إلى التطوير. وتفرض الظروف الإدارية تعديل الأنظمة العسكرية والمدنية من فترة إلى أخرى طبقا لمعطيات متعددة. والمؤسسات العسكرية عموما لا تتطور ولا تنجح في تنفيذ مهامها العليا وواجباتها، إلا بقدر نجاحها في تبني أنظمة تلاءم طبيعة التنظيم وبيئة المؤسسة العسكرية؛ فما لا يتطور يندثر في سباق التطور التقني الذي تفرضه تحولات الاجتماعية نحو مجتمع المعرفة، والمجتمع العسكري من أهم البيئات التي يفترض أن تتأثر وتواكب التحولات بشتى أنواعها لتظل جاهزيتها في مستوى التحديات ومستوى الآمال. وهنالك تشابه بين الأنظمة العسكرية العالمية في بيئتها وواقعها ومجالات تطويرها ومعايير تطبيقها ومعطيات نجاحها. ويشكل عدد من الأنظمة في مجموعها البنية التحتية للمؤسسة العسكرية وهي بمثابة الأعمدة والسور وشريان الحياة وبدونها تصبح المؤسسة مجرد هياكل بدون روح حية ويغلب عليها الركود والجمود. وتتمثل مجموعة الأنظمة في أنظمة الخدمة الأساسية وما لها من لوائح تنفيذية وهذه تحدد الحقوق والواجبات وتصف العلاقة بين المؤسسة ومنسوبيها. وتراعي أنظمة الخدمة توفير بيئة عمل ملائمة للمنسوبين من حيث حقوقهم بما في ذلك تلبية طموحاتهم المتعددة في تطوير أنفسهم في كل مرحلة من مراحل حياتهم. وهنالك مجموعة أنظمة بعضها أنظمة داخلية تحدد العلاقات بين المنسوبين وقادتهم داخل معسكراتهم بما في ذلك الأنظمة التي توفر الحوافز للمتميزين والمتفوقين في شتى أنواع المهام ومنها التفوق في الخدمة وإتقان المهنة وتحقيق البطولات وغيرها. وأنظمة أخرى تنظم طبيعة المحاكمات والعقوبات وكيفية تنفيذها وإدارتها. وتختلف الأنظمة ولوائحها في ظل الأزمات بمستوياتها عنها في زمن السلم والاستقرار. وأيضا مجموعة من الأنظمة الإدارية التي تسهم في تنظيم عمل ومهام وواجبات كل وحدة طبقا لتخصصها وتحتوي على مجموعة معايير وشروط تضمن توحيد المفاهيم وتضمن الانجاز وتحدد خطوطا واضحة للتقييم والمحاسبة. وتعتبر أنظمة ولوائح التقاعد من أهم الأنظمة العسكرية لما لها من تأثير حالي ومستقبلي. فأنظمة التقاعد كانت ولا تزال هي الشغل الشاغل للموظف المدني والعسكري منذ اليوم الأول لدخوله الوظيفة لأنها تهيئ الموظف لمستقبل ما بعد الخدمة. ولذلك، فإن وجود تناقض أو ضعف في بعض مواد أنظمة التقاعد له تبعات سلبية حقيقية، وليس أدل على ذلك من حالة تواجه الكثير وتعرف باسم «أزمة التقاعد». وحتى تزول هذه الأزمة التي تعتبر شغلا شاغلا للعسكريين تعمل المؤسسات العسكرية على تصحيح النظام وتطويره بما يلاءم معطيات العصر ويجعله مقبولا، ومساهما في تخفيف المعاناة من آثار هذه القضية، وعاملا من عوامل رفع الروح المعنوية. وقد يرى البعض أن الأنظمة العسكرية كثيرة أو معقدة؛ وهي في الواقع كثيرة، ولكنها تكاملية وحتمية. ولا يتم احتراف الجيش أو المؤسسة العسكرية إلا بوجود منظومة متكاملة من الأنظمة. ولكنها في الحقيقة ليست معقدة لأنها تترجم إلى ما يشبه إجراءات العمل اليومية، وتعتمد كمعايير للنجاح في المهام وفي الجاهزية العامة. وكلما كانت هنالك فلسفة عمل واضحة ومبنية على أنظمة دقيقة ومحددة وفيها ضوابط ومعايير كلما ارتفع مستوى الكفاءة. فالوحدة أو المؤسسة العسكرية لكي تلتزم بتحقيق أفضل المعايير في أنظمتها لا بد لها من رؤية واضحة. والرؤية الصائبة لبناء وتميز واستدامة المؤسسة عموما، لها أهداف وأنظمة محددة ووصف وظيفي، وحقوق وواجبات، ومعايير عمل دقيقة. والرؤية العسكرية تقتضي جعل المؤسسة العسكرية دائمة النشاط والمرونة واللياقة وقابلية الحركة ومتمكنة معرفيا ومهنيا، وفيها فعالية قتالية فائقة طبقا لطبيعة مهمتها. وهذه شؤون تحتاج إلى أنظمة إدارية متجددة، تضع الأمور في نصابها الصحيح دائما. والمفترض من المؤسسة العسكرية وقت السلم أن تعكس مظهرا صادقا لقوتها وانضباطها وقدرة منسوبيها على تحمل المشاق، وعلى الكفاءة في استخدام الأسلحة والمعدات وتنفيذ الخطط وأداء الواجبات والتفوق في المهارات بشكل فردي وبصفة جماعية، وبما يشيع الطمأنينة لدى المواطن العادي. ذلك هو جانب من عرض القوة المفترض أن تتصف به المؤسسة العسكرية عموما، لتصبح ذات قدرة تلقائية في رد الفعل السريع. تلك قضية ردع وشأن وطني لغرس الثقة ولرفع الروح المعنوية الوطنية. وهذا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم دون أنظمة شاملة لا تترك للصدفة مجال. فأداء الواجب العسكري شان هام للغاية فيه التضحية بالروح، وفيه كسب الموقف الطارئ، وفيه تحريك القوات، واستخدام الأسلحة وإطلاق النيران، وفيه الأمل الكبير بتحقيق النصر، وفيه احتمال الخسارة الجسيمة؛ لا قدر الله. ولا يمكن أن يتعلم الرجال لحظة النداء للواجب تحت الضغوط وأسوأ الظروف. إنهم يتعلمون في زمن السلم بموجب أنظمة تجندهم، وأخرى تحفظ حقوقهم، وأخرى ترفع معنوياتهم، وأنظمة تحاسبهم، ونظام يقاعدهم، وهذه كلها شئون يجب أن تكون مستدامة لتتراكم فعاليتها عبر دراستها، والتدريب عليها، وتطبيقها. فالأمن الوظيفي، والكفاءة المهنية، وتكافؤ الفرص، لا تتم إلا بوجود أنظمة منظمة، ومتكاملة، وملزمة، ومتجددة؛ لتصبح آلية لنظام العمل اليومي، وفق إجراءات يجري غرسها عن طريق الأنظمة. وعلينا أن ندرك أن كل الدروس المستفادة والمؤشرات لعمل المؤسسة العسكرية العالمية تحت مختلف الظروف تنص على أن الوحدات التي تعمل بموجب أنظمة متجددة ودقيقة تتمكن من انجاز مهامها في السلم والحرب وفي الأزمات بأقل الخسائر، وتلك التي تعمل بأقل قدر من الأنظمة وبوتيرة بطيئة في التغيير والتطوير، تعتبر عكس ذلك. عضو مجلس الشورى [email protected]