عندما تمكنت قوات الرئيس العراقي السابق صدام حسين من غزو واحتلال دولة الكويت في صبيحة الثاني من أغسطس 1990م شرعت تلك القوات في وقت لاحق في تنفيذ عمليات التلغيم للكثير من منشآت النفط الكويتي تحت مسمى (خطة التخريب المؤجل). وكان عدد من موظفي قطاع البترول الكويتي قد استمروا في مزاولة أعمالهم بالقرب من عناصر القوات العراقية التي تشرف على النفط، وتمكنوا من تقديم خدمات جليلة لصالح المقاومة الكويتية. وكان استمرار الكويتيين في أعمالهم النفطية سبباً بإذن الله مكنهم من إبطال مفعول عمليات التخريب المؤجل عدة مرات، وفي مواقع مختلفة. ومن أهم مبادراتهم تلك أنهم عملوا في إطار من السرية والمخاطرة حين تمكنوا من تفريغ أحد خزانات الغاز الكبيرة لاحتوائه على نوع من الغاز الذي يعلمون أنه لو تعرض للتفجير ستكون نتائجه كارثية على نطاق قد يتجاوز الكويت ويحدث أضراراً بالناس والبيئة أبلغ مما تحدثه قوات صدام حسين. ويعد ذلك عملاً بطولياً يسجل للمنفذين فيما أبدوا من بسالة ومبادرة جنبت بلادهم والمنطقة حادثة كانت ستسجل في التاريخ كواحدة من أهم الحوادث الصناعية. ذلك التصرف المهني يلخص مفهوم الأمن الصناعي، في مخاطره من ناحية، ومنع خسائره من ناحية أخرى. فلولا أن أولئك الموظفين كانوا على درجة من الكفاءة المهنية والوطنية وسعة الاطلاع والشجاعة المشهودة، ثم لولا توافر إجراءات السلامة في المنشآت نفسها، لما تمكنوا بتوفيق الله من سرعة تفريغ الغاز الخطير من أحد أهم الخزانات الكبيرة وإبعاد شبح الخطر عن محيطه عبر إجراءات فنية سرية ومعقدة. نورد هذه الحادثة التي قد لا يعرف عنها الكثير في بداية هذه المقالة لإثارة الاهتمام حول الحوادث التي ليس بالضرورة أنها محصورة على المنشآت الكبرى. وعلينا أن نتذكر أن ليس للحوادث الصناعية وجه محدد؛ فهنالك حوادث ميكانيكية وفيزيائية وبيولوجية وكيميائية وطبيعية، ويمكن أن تتعدد أنواع ومستويات الحوادث من ضرر يلحق بشخص واحد أو مجموعة صغيرة، كما يمكن أن تتسبب الحوادث في كارثة كبرى. وتنتج المخاطر والحوادث الصناعية من جراء تخريب متعمد، وأخرى بسبب الإهمال، وغيرها عن نقص في الكفاءة والإشراف، والأخلاق المهنية تعد أيضاً من مسببات الحوادث. وللبحث في مجال الحوادث الصناعية يمكن للمهتم أن يجد قائمة كبيرة ومتنوعة تعكس دراستها الكثير من التوصيات والتجارب نحو تطوير شؤون السلامة والأمن الصناعي. وتهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء حول مفاهيم السلامة والأمن الصناعي لنشر ثقافة الأمن الصناعي، نحو مواجهة تعاظم تحديات حوادث البيئة الصناعية والمنشآت والمدن. ويدرك الكاتب أن هذا موضوع كبير وفيه مجالات كثيرة تحت مفاهيم عامة للهندسة الصناعية يستحق كل منها تركيزاً خاصاً. وسوف نكتفي بالإشارة إلى بعض المقومات المهمة نحو تطوير مفاهيم وثقافة الأمن الصناعي. وتحقيقاً لذلك تتضمن هذه المقالة الإشارة إلى بيوت الخبرة وأبحاث السلامة، وإلى الإجراءات التقنية والبشرية، ومكونات خطة الأمن، ومعايير السلامة وتحقيق الثقة، والمنظور التكاملي للسلامة، وكذلك الرؤية المستقبلية. ونختتم المقالة في جزئها الثاني بإشارة إلى أهمية مراجعة وتنسيق وتطوير لوائح وتعليمات السلامة والانطلاق منها نحو استراتيجية وطنية متكاملة. وبنظرة عاجلة على حالة الأمن والسلامة في مفهومها الصناعي يتضح أن تصاعد حدة الإرهاب في العقد الأخير وتنوع عملياته قد ضاعفا من تعقيدات الأمن الصناعي. وقد أصبحت الصناعات وكذلك الهندسة الصناعية في مجالات كثيرة تؤثر في أمن وسلامة المجتمعات. كما اعتبرت المنشآت الوطنية الصناعية، وكذلك منشآت البترول، والموانئ، والمصافي، ومصانع البتروكيماويات، ووسائل النقل وغيرها، أهدافاً محتملة للتخريب. ولم يتوقف التهديد عند المجال الصناعي بمفهومه العام، بل تعداه إلى المجمعات السكنية والفنادق والأسواق وكثير من المباني الحكومية وحتى المستشفيات وغيرها من المنشآت العامة والخاصة. وقد ينتج عن الإهمال وتدني ثقافة ومعايير السلامة أخطار لا تقل عن مخاطر الحوادث المفتعلة. وقد منحت حملة الإرهاب، والحملات الحكومية المضادة لها على مستوى العالم، زخماً جديداً إلى الصناعة وإلى المبادرات الحكومية، استهدف الابتكار والإنتاج، وتحسين وسائل وإجراءات السلامة الصناعية وبيئة المنشآت والمصانع، وتوفير مقومات السلامة العامة للمنشآت والأفراد، بمفاهيم هندسية متجددة تواجه المخاطر وتمنع الخسائر. وأصبح لزاماً أن يعاد النظر في كثير من إجراءات وتشريعات الأمن والسلامة الصناعية، وجعلها أكثر تحصيناً للتقليل من احتمالات التخريب، وجعل المجتمع والمنشآت الوطنية بعيدة عن عبث العابثين، أو عن الفشل الناتج عن الإهمال، أو عن تدني مستوى مقاييس السلامة. وقد ساهم خطر الإرهاب على المستوى الدولي في بروز نهضة ملموسة في صناعة وثقافة الأمن الصناعي، وسلطت الأضواء على كافة الاحتمالات التي يمكن أن تقلل من تلك المخاطر، عبر المفاهيم الحديثة لهندسة الأمن والسلامة الصناعية. ونظراً للتطورات المتلاحقة في مجال الصناعة وبيئة منشآتها، فإن عوامل السلامة والأمن قد أصبحت من المتطلبات الضرورية لتحقيق النجاح في البيئة الصناعية. وقد واكبت النهضة الصناعية حاجة ملحة لرفع درجات السلامة ومستويات الأمن، وأصبحت تحديات الأمن والسلامة من المتطلبات الصناعية الأكثر أهمية في عالمنا اليوم. ولم تعد الأعمال التجارية والمنشآت الصناعية ذات خصوصية محلية؛ بل تجاوزت ذلك إلى الأبعاد الإقليمية والدولية، متأثرة بالمستجدات التقنية، وبالتهديدات المتعددة في مجالات الأمن والسلامة. وهكذا فإن مجالات السلامة والأمن الصناعي تشمل معطيات تقنية وسكانية واقتصادية، وتحتم أهمية التوعية والتثقيف لإيجاد محترفي الأمن والسلامة القادرين على تحقيق معطيات الهندسة الصناعية في هذا التخصص المهم. وحين يكون الحديث عن شؤون السلامة والأمن الصناعي فلا بد من الإشارة إلى أن أولى خطوات النجاح تنطلق من اعتبارها جزءاً أساسياً من مفهوم الهندسة الصناعية التي تعد تخصصاً يعنى بالتصميم، وتحسين وتركيب الأنظمة والمصادر الأساسية من القوى البشرية والمواد والمعدات والأجهزة وغيرها من المتطلبات والمعلومات، التي من شأنها تحقيق فاعلية الإنتاج، وتسهيل تقديم الخدمات ومنع الخسائر. وقد أصبح من المؤكد أن المهندسين الصناعيين يسهمون بمهاراتهم المتخصصة في مجال التحليل والتصميم والمقارنات، لتطوير بيئة العمل، عبر أطر علمية تضع في الاعتبار كافة المعارف الفنية والاجتماعية والبيئية والأمنية. وقد أصبحت الهندسة الصناعية جزءاً لا يتجزأ من المؤسسات الصناعية والاجتماعية والحكومية، التي تسعى إلى التفوق في منتجاتها وخدماتها وبيئة عملها. ولا تتوقف هندسة السلامة على تصنيع المعدات والوسائل الآمنة، بقدر ما هي متطلب حتمي لحماية البيئة وهندسة المواقع وهندسة الطرق، وكذلك هندسة المرور، بما يكفل تحقيق أعلى مستويات السلامة والأمن. ومع المزيد من الإنشاءات وبناء المدن الصناعية، وتعدد الشركات والمشاريع في هذا العصر الذي تتعاظم فيه التحديات الأمنية بصفة عامة، وتحديات السلامة بصفة خاصة، أصبحت هنالك في المقابل بيوت للخبرة في مجالات السلامة والأمن. وأصبح عامل السلامة والأمن عنصراً أساسياً في الإعداد لإنشاء أي مشروع صناعي مهما كان حجمه حيث المشورة أو التخطيط الهندسي والتحليل العلمي. كما أصبح هنالك العديد من المراكز والمدارس التي تدرب وتخرج المتخصصين في مجالات الأمن والسلامة الصناعية. ولا يتوقف التخطيط لتحقيق السلامة والأمن على المنشآت، بل يتعداها إلى ما تحتوي عليه من أنظمة فنية ومعدات وأصول، وكذلك تحقيق الأمن والسلامة للمنسوبين وللزبائن والبيئة المحيطة بالمشاريع والمنشآت. وهنالك الكثير من مصادر المعلومات وبرامج التدريب حول شؤون أمن الأفراد، وأمن المعلومات، وأمن المنشآت، وأمن المواد. وليست السلامة أو تحقيق الأمن بمجرد إجراءات وتعليمات يتم إصدارها ويفترض عن حسن نية الالتزام بها فحسب، بل إنها متطلبات مهمة تدخل في صناعة المعدات وإنشاء المباني والطرق والمشروعات المتنوعة. وقد أصبحت السلامة جزءاً لا يتجزأ من الهندسة الصناعية، حيث يقوم خبراء السلامة بالإسهام في ضمان دمج مقومات السلامة داخل الأنظمة والمشاريع في مراحل مبكرة، وكذلك مراجعتها وتقويمها في مراحل لاحقة. وهنالك مجالات ودرجات متعددة ومتنوعة لتحقيق السلامة والأمن، ويمكن للمختصين بشؤون السلامة أن يضعوها في اعتبارهم. ويعد تقدير المخاطر المحتملة بشموليته، وكذلك التهديدات، وتقويم حالة المنشآت بما فيها من معدات وأجهزة، وتقويم مواقعها ومحيطها وبيئتها، من الأولويات أثناء التخطيط للإنشاء أو الصيانة اللاحقة. كما أن متطلبات الأمن والسلامة أثناء التشغيل، وكذلك خطط الطوارئ المحتملة، واحتياطات الأمان اللازمة، تعد من الشؤون ذات الأولوية بالدراسة والتقرير. وكلما كانت المنشآت ذات حساسية أكثر، تضاعفت معايير السلامة، بما فيها تقييم حالة وإمكانيات الأفراد القائمين على شؤون الأمن، ومدى كفاءاتهم الشخصية والنفسية والمهنية. وقد أصبحت المنشآت مهما كبر أو صغر حجمها، وكذلك المعدات والأجهزة، تعتمد في تنفيذ وتشغيل وإدامة عملياتها، على فلسفة أمن صناعي، يحقق مستويات من السلامة والاستقرار والثقة. ولا يتمكن المشرفون على المنشآت الصناعية من تحقيق غاياتهم، في مجال الأمن، إلا من خلال اعتمادهم لرؤية مستقبلية، يلتزم بها الجميع، ويحققون مضامينها عبر رسالة المؤسسة، في مجال تحقيق الأمن والسلامة ومنع الخسائر. ومن الطبيعي ألا تخلو بيئة المشاريع والمصانع ومنشآتها من درجات معينة من المخاطر. ولا يقتصر الخطر على العوامل البيئية والكوارث الطبيعية، بل يتعداها إلى الحوادث الصناعية والحرائق، وكذلك إلى أعمال التخريب والإرهاب وحوادث الإهمال، وانعدام أو ضعف مقومات السلامة في الأجهزة والمعدات، أو في منشآتها وبيئتها. وقد دلت الدروس المستفادة من الكوارث والحوادث الصناعية على أن أفضل الخطط والاحتياطات الأمنية يمكن أن تفشل، حينما لا يتم تبنيها وتحقيق كافة خطواتها بشكل دقيق ومستمر، تحت إشراف وسيطرة ومعايير أداء معتمدة لدى الجميع، وقابلة للتطبيق. وقد ساهمت برامج الأمن والحماية عبر برامج أجهزة الحاسب الآلي في تحقيق تقدم كبير في المراقبة والتحليل والتنبؤ والإنذار المبكر. ولكن الاعتماد التام على تحقيق الأمن عبر البرامج التقنية لا يجب أن يكون بديلاً لتحقيق الأمن المادي عبر الإجراءات والوسائل الطبيعية والمجهودات البشرية، التي يتم دمجها في برامج الأمن والسلامة بطرق علمية ومنهجية؛ وعبر إجراءات عمل مستديمة ومعتمدة؛ ولذلك فإن فعالية الأمن تتحقق عبر دمج المعطيات التقنية والبشرية في ظل أنظمة إدارة وسيطرة يقظة متجددة. فلا بد لكل مشروع أو منشأة مهما كان حجمهما من نوع معين من الإشراف المسؤول لضمان الالتزام بمستويات الأمن والسلامة المفترضة. ومن المسلَّم به اليوم أن تتحقق الكثير من شروط السلامة الذاتية في صلب الأنظمة والمعدات، بصنع وسائل السلامة واحتياطات الأمان وبرمجتها لتصبح جزءاً لا يتجزأ من تكوين المعدات والأجهزة. ويضاف إلى ذلك البرامج التقنية التي تسهم في إدارة المخاطر وبرمجة خططها. ورغم توافر تلك الاحتياطات الصناعية فإن مجالات كثيرة في شؤون الأمن والسلامة لأي منشأة أو مصنع أو معدة بعينها لا تتحقق إلا بهندسة أمنية تراعي كافة الاحتمالات وتضع لها عدة سيناريوهات، يمكن للقائمين على شؤون السلامة أن يتدربوا عليها. ومن المعروف أن مجرد دمج وسائل السلامة في الأجهزة والمعدات لا يكفي بمفرده لتحقيق السلامة الكاملة وتحقيق الضمانات الأمنية، وإيجاد الثقة المطلوبة في بيئة العمل. كما أن القدرة على الوصول إلى كافة المواقع والمعدات وأماكن الخطر، وتقديم المعونة للسيطرة على المخاطر، في أي موقع أو مدخل للمنشأة أو أية معدة تهدد بالخطر، تعتبر متطلباً أساسياً أثناء التخطيط لتحقيق متطلبات السلامة، أو تقويم المخاطر. ثم إن أجراس الإنذار وأجهزة المراقبة والكشف، ووسائل الاتصال، ووسائل الحماية المادية، وتخزين الوسائل الضرورية والمعدات الاحتياطية في مواقع يسهل الوصول إليها، تعد من الأمور ذات الأهمية في بناء خطة الأمن. وكلما كانت المنشأة أكبر ومحتوياتها أكثر أهمية، تطلبت حمايتها وتحقيق سلامتها توفير وسائل أمن أكثر تطوراً وتنوعاً. فغرف المراقبة وأجهزة الرصد والتسجيل لا غنى عنها في دعم وسائل الحماية والسيطرة، وكذلك ضمان تسجيل وحفظ حالة السلامة والأمن في المنشأة عبر أرشيف إلكتروني مصوَّر وقواعد معلومات متراكمة، تسمح بالتخطيط المستقبلي، بناء على حقائق ومعطيات خاصة بالمنشأة ومحيطها ومنسوبيها وعملائها، ومصادر خطرها المحتملة. ولا يتوقف التخطيط والإعداد والتنفيذ لتحقيق الأمن والسلامة في المنشآت ومحيطها، ولكن هندسة السلامة تدخل كما أسلفنا في جميع الأجهزة والمعدات؛ لضمان تحقيق السلامة عبر احتياطات أمان إضافية تحد من المخاطر تحت أسوأ الظروف، وتعكس معلومات وإحصائيات الحوادث عن أمثلة الفشل في جمع وتحليل المعلومات عن حالة الأجهزة وسلامتها. وينتج بعض الفشل عبر التعقيدات الفنية وانعدام المهنية الفائقة في بعض المنشآت، أو ضعف الإشراف والسيطرة، أو عن نقص في تدريب العاملين؛ وذلك ما يؤدي إلى ضعف الجاهزية وانعدام التنبؤ بالحوادث الوشيكة. ولما تقدم فإن خطة أو تعليمات الأمن يفترض أن تراعي كافة المعطيات المشار إليها، وتقر من خلال مجلس أو لجنة أو مجموعة أمن متخصصة ومتابعة للمستجدات؛ ضماناً لجاهزية الخطة وتطويرها ومراجعتها بشكل مستمر. ومن مقومات نجاح خطة الأمن والسلامة في أي منشأة مهما كان حجمها أن تكون المهمة المعطاة في هذه الخطة واضحة ومحددة المعالم، ومشتملة على مجالات التنفيذ المفترضة طبقاً للاحتمالات، وأن تكون الواجبات محددة لكل قسم أو جهة أو فرد مفترض مشاركته في شؤون السلامة ومنع الخسائر وتحقيق المستوى الأمني المطلوب. كما أن الخطة يجب أن تتضمن قائمة دقيقة وصحيحة بمعلومات التنسيق والاتصالات المطلوبة في حالات الحوادث والأزمات. * عضو مجلس الشورى [email protected]