بعد مرور أكثر من أسبوع على الكارثة التي لحقت بشعب هايتي، لم يظهر أن الدول العربية مُهتمة كثيراً بما جرى في ذلك الجزء من العالم، فيما هبّت دول كثيرة وشعوب بل مواطنون بسطاء في أنحاء المعمورة لتنظيم التبرعات ومد المساعدة الى مئات ألوف الهايتيين المنكوبين ومعهم ألوف الأجانب الذين يعيشون في تلك الجزيرة ومنهم مهاجرون عرب وجدوا في تلك البلاد فرصة عمل وحياة. كان الزلزال الذي أحدث الكارثة الأكبر والأخطر في التاريخ الحديث ولم يسبقه - ربما - في حجم الضحايا سوى الزلزال الذي ضرب لشبونة عاصمة البرتغال في أول تشرين الثاني (نوفمبر) 1755، إذ قيل إن عدد القتلى بلغ 60 الى 100 ألف، وضرب الدمار المدينة البرتغالية وهز دورها السياسي - الاستعماري في حينه، وأثار في أوروبا عموماً بداية نقاش حول ما يسمى اليوم بعلم الزلازل. وفي القرون اللاحقة، أقله منذ منتصف القرن العشرين وحتى يومنا هذا لم تشهد البشرية كوارث بضخامة كارثة لشبونة، وفاجعة تسونامي في نهاية 2004 ومطلع 2005 التي اعتبرت الأخطر أوقعت نحو 15 ألف ضحية. قبلها حصد زلزال الجزائر في أيار (مايو) 2003 نحو 2160 قتيلاً و8965 جريحاً و15 ألف مشرد، وبعدها أوقع زلزال في أندونيسيا (2009) ثلاثة آلاف ضحية. وتطول لائحة الكوارث لتشمل في السنوات الأخيرة الصين وإيران (زلزال بم حصد 40 ألف شخص) وكشمير الهندية والمغرب وتركيا وتايوان واليونان وأرمينيا واليابان وتشيلي وغيرها... العالم كله مهدد بالزلازل، هذه مسألة حسمها العلماء وإن لم يتمكنوا بعد من تحديد مواعيد حدوثها بدقة، والعالم العربي مهدد على نحو خاص، في مغربه بين تونسوالجزائر وفي مشرقه حيث يتحرك ما يسمى بفالق البحر الأحمر الذي يمتد من كينيا وأثيوبيا وصولاً الى شاطئ السعودية الغربي فالعقبة ووادي الأردن وصولاً الى البقاع اللبناني وسورية وتركيا، أي كل الجزء الشرقي من العالم العربي، وشعر سكان هذه المناطق جميعاً بهزّة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 ذكرتهم بالخطر الماثل، كما أن هزات لاحقة في منطقة فلسطين - لبنان - سورية أعطت إشارات مُلحة لضرورة الحيطة والحذر والاستعداد... لكن مستوى الاستعداد لدينا يبقى في حدوده الدنيا، في وقت تبرز القدرات الجبارة لدول أخرى في مواجهة أزمات من هذا النوع إنقاذاً وإغاثة وإعادة إعمار. وكان لافتاً مثلاً أن تتمكن دولة مثل السويد من تقديم مساعدات تفوق مساعدات الدول العربية مجتمعة الى ضحايا تسونامي 2004 - 2005، وقبل أيام بدأت الصين إدارة عملية إنقاذ ومساعدة في هايتي، ليس فقط استناداً الى قدراتها، بل الى جاهزيتها، وهي التي أنشأت منذ مطلع هذا القرن، ورداً على كوارث أصابتها، مؤسسات إغاثة يشمل عملها الداخل والخارج، أما الولاياتالمتحدة فتبقى في طليعة البلدان القادرة والساعية الى التدخل السريع، ومع أن أوروبا تحركت مجتمعة وبلداناً منفردة وأقرت ما يقارب بليون دولار من المساعدات، فإن المفوضية الأوروبية رأت ذلك «تخلفاً عن المواكبة» في موقف القارة. ويتكرر السؤال: ماذا عن الدور العربي؟ وفي الجواب أن مساعدات تقليدية تذهب عادة من دول الخليج الى المناطق المنكوبة. وفي حالة هايتي سمعنا عن مساعدة من المغرب قيمتها مليون دولار، وطائرة محملة أدوية وخيماً وبطانيات من لبنان وأخرى من قطر، وتبرع بمئة ألف دولار أميركي من برنامج الخليج العربي للتنمية (اجفند) ودعوة من الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الى التحرك... وفي المقابل كانت أميركا «تغرق» هايتي المنكوبة بحضورها ومساعداتها مع مئات ملايين الدولارات وأساطيل من السفن وقوة من 3500 جندي، وقدم صندوق النقد الدولي مئة مليون دولار، والبنك الدولي مبلغاً مماثلاً والصليب الأحمر الدولي 40 طناً من الأدوية، واليابان خمسة ملايين دولار، وأستراليا تسعة ملايين، وكندا 97 مليوناً، وهولندا مليون يورو وألمانيا مليون ونصف المليون يورو والدنمارك 1.34 مليون يورو وبريطانيا 6.87 مليون يورو وإسبانيا 6 طائرات محملة فرقاً ومعدات إنقاذ. وكلها مبالغ وكميات قابلة للزيادة... غاب العرب نسبياً في خضمّ العمل الإنساني الجبّار، ولعلهم لا يغيبون طويلاً عن مأساة ستتطلب معالجتها أشهراً وسنوات. لكن ما لم يَغِب هو ردود فعل تُقرأ على مواقع الانترنت ومنها ما يطلب المزيد من الكوارث «لتلك الشعوب» في تشفٍ لا يشبهه سوى بعض التعليقات السياسية، التي تذهب من البعد الإنساني للكارثة الى طرح تساؤلات مثل: أين هو العالم من مجازر أفغانستان وباكستان والعراق وأين هو من الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني...! انها تعليقات هروب من المسؤولية في أدنى التفسيرات، وغباء معمم في أفضلها، فالعالم الذي يهب اليوم لنجدة هايتي ليس فقط حكومات ورجال سياسة، انه مجتمع مدني في الأساس، وعمل الحكومات إنما يأتي تلبية لضغوط هذا المجتمع وثقافته الإنسانية. وفي الحالات التي تتخذ كمثال لتوضع في مواجهة العمل الإنساني، كان العالم حاضراً، خصوصاً أميركا وأوروبا، بما في ذلك عندما ضرب الزلزال إيران أو عندما ضرب الزلزال السياسي والعدوان الإسرائيلي شعب فلسطين. والحديث الآن أن يرتفع مستوى الأداء العربي تفاعلاً مع الكوارث التي تحيق بشعوب أخرى الى مستوى المسؤولية، بحيث نرى حضوراً عربياً كثيفاً حيث يحتاج الأمر ذلك، ففي قضايا التضامن البشري لا حدود للعطاء، ومن يدري، فربما ستحتاج دولنا وشعوبنا قريباً الى تضامن دولي لا يجب أن نفتقده بسبب سلوكيات بيروقراطية وتحليلات بائدة. * صحافي من أسرة «الحياة»