بين المواطن الثمانيني الذي رفض تزويج ابنته، والآخر الذي تزوج مثل ابنته، توجد منطقة آمنة مطمئنة لا يصل إليها عقاب ولا قرار ولا قانون، بل تدور فيها الشكاوى والدعوات وتختلط فيها خيوط المآسي والأحزان، بوجبات بكاء فاخرة وموائد قهر نتفاعل معها بالصمت والتحسب والتحسر، وفي أوقات بسيطة نرفع من حبالنا الصوتية قليلاً لكي نُخبر من يقرأ هذه القصص أن لدينا القدرة على الحديث والكشف عنها، لكنه صوت يشبه التشجيع الرياضي، وينقطع بانتهاء اللقاء. في «جدة» ظلت فتاة ثلاثينية تناضل وتناضل من شتائها ال 18، لتفوز بنصف شريك حياة وترى النور ولو لسنين ضئيلة مع زوج يتقدم لها، كان له حق الاختيار وليس لها ذلك الحق، ولكن وليها أبى لهوس مالي. اجتهد إخوانها في فك حبسها الأبوي و«التوسط بمأذون» وإسقاط ولاية أبيها الثمانيني، وقد يكتب لمساعيهم واجتهادهم نجاح ومعه خروج فتاة من عنف أسري على الطريقة الثمانينية، ولهذه الفتاة أهمس في أذنها: بأن الصبر سيعقبه فرج يمسح كل ساعات المعاناة التي كانت تقطع جسدها يوماً بعد يوم، ولتحمد الله أنها لا تزال بأوراق تفاؤل حين تتطلع للمستقبل وتذهب لشريك عمر يعوضها ولو بحب في ما فقدت من السنين، فيضيء لها دروبها المظلمة، ويكفيها أن الشرع أسمى حالتها «عضلاً» له من السبل والحلول ما يوقف هذه التسمية، من أن تتجاوز بها عمراً أطول في ظل استيقاظ إخوتها وسعيهم لإنقاذها. أما في عنيزة، فالثمانيني هناك حقق تراجيديا خيالية من بطولته بمشاركة أب آخر و«مأذون ينفذ»، والضحية طفلة تداعب ال 12 من عمرها، تموت في الحلوى ويغريها هاتف جوال، وتفرحها ملابس جديدة، ذهبت الطفلة بمباركة أبيها إلى أحضان الأب الثمانيني ب «85 ألفاً» كمهر، وحفنة ألعاب وهدايا. أي حديث سأجره إلى هنا عن هذا البيع العلني؟ وأي عقل يقنعني بأن هذا هو المسار الصحيح والإرشاد الأبوي السليم لطفلة في بداية إشراقة جسدها وتفتح عينيها على الحياة؟ إلى أي حد وصلت أخلاقنا الإسلامية وتربيتنا الدينية؟ ومن غيّب عن الأب انه مسؤول عن أبنائه يوم يسأله عن الرعية الجبار المتكبر؟ هل نطلب لهذه الصغيرة البريئة العوض في جسدها أم عقلها أم مستقبلها، أم نهمش كل هذا الحزن لنعزيها في والدها الحي؟ لصوت أهل الدين مستمعون ينتظرون في مثل هذه القضية، ولا أحد سيعوض الفتاة في ما فقدت، ولا سنطالب بإعادة تأهيلها النفسي، بل إبداء الرأي الصريح الصالح لهذا الزمان والموقِفِ لكثير من التجاوزات وحالات بيع الجسد والاستهتار بأرواح صغيرات لم يتحسسن بعد طعم الحلوى في الفم... الثمانيني في جدة بكامل قواه العقلية، وكذلك نظيره في عنيزة، ولذا لا مجال لتبرير ما يحدث لنا اجتماعياً بالمرض النفسي وغياب العقل، إلا أنهما يتحدان في الهوس شكلاً ويختلفان مضموناً. فتاة عنيزة ستموت باكراً والخوف أن تموت فتيات أخريات للصمت الذي نجيده حين يتعلق الأمر بجرائم تحت غطاء شرعي، ما بيدي أن أقوله: لتغِبْ في المقبل من الأيام هذه الجروح الاجتماعية القاهرة، أو ليتم تغييبها، حتى لا يسخر الآخر من ديننا ومجتمعنا، فهي قد تمنح طابع التعميم، وهم يشكلون بالضبط نقاطاً سوداء في الثوب السعودي الجميل. [email protected]