للوهلة الأولى، يسهل التبسيط. يسهل القول مثلاً أنها غضبة حق لمحرك البحث الأشهر "غوغل" في وجه سلطان الحزب الشيوعي الصيني الجائر. ولا يصعب القول أيضاً ان تلك المنازعة تعطي نموذجاً من الصراع بين قوى العولمة ومؤسسة الدولة، خصوصاً في بلد صاعد مثل الصين. لقد قيل كلام كثير عن ذلك التنازع، وسال الحبر مدراراً عن الصدام بين التحديث الفائق (وضمنه صعود هائل للفردية والحرية) الذي تحمله شبكة الإنترنت، وبين دولة ذات تاريخ قمعي عريق، يمتد من الوصف الدائم لشيوعيي بيجين بأنهم أباطرة فعلياً، ويمرّ عبر مسلسل متصل من قمع الإثنيات والعرقيات والمذاهب الدينية في بلاد النهر الأصفر، ولا ينتهي عند القمع الدموي في تيانانمين (1989) ومجموعة "فالون غونغ" وشعب التيبت البوذي، ومسلمي الإوغور وغيرها. وفي هذا السياق، يبدو "جدار الصين" الالكتروني العظيم، في إشارة الى الرقابة الثقيلة التي تفرضها الدولة الصينية على الانترنت، الذي يستهدف خنق أصوات المعارضة (او المعارضات) الصينية على الإنترنت. في هذه الترسيمة، تبدو الصين وكأنها تكرر، على قياس أكبر، ما فعلته السلطة الإيرانية من قمع إلكتروني وشبكي، عزز من قبضتها الدموية على الإضطرابات التي اندلعت بعد الإنتخابات الرئاسية المثيرة للجدل فيها. يغري ذلك القول، لأنه يستند الى الكثير من الوقائع. والارجح ان الكلام عن التنازع بين "غوغل" والصين بهذه الطريقة، يصف الكثير من الوقائع بينها. لكن، أهذا كل شيء؟ هل يمثّل الصراع بين "غوغل" والصين، جزءاً من حروب الحرية على الانترنت (الارجح انه كذلك)، أم ان للهذا المشهد أوجه أكثر تشابكاً وتعقيداً؟ ولا يتعارض وصف الأشجار مع وجود الغابة، قياساً على قول معروف، بل ان حرب الحرية على الانترنت، وكذلك شبكات الخليوي، هي أحد الوجوه البارزة لهذه المنازعة. ولكن التفاصيل تكشف عن شياطينها، بحسب المثل الأميركي الشهير. ثمة من يسأل لماذا انتظر "غوغل" 4 سنوات، كي يتحرك ضد الرقابة الصينية على نشاطات فرعه فيها (يشتهر باسم "غوغل.سي ان" google.cn). وهناك من لاحظ ان الحكومة الصينية أبدت الكثير من البرودة حيال خطوة "غوغل"، بحيث لم تتردد تشانغ يو الناطقة بلسان وزارة الخارجية الصينية، بالقول: "نرحب بمن يعمل ضمن القانون...الانترنت حرّة...والحكومة الصينية تشجّع تطوير شبكة الإنترنت"! والمعلوم ان "غوغل" لا يحوز سوى ثلث سوق البحث على الانترنت، في ما يحوز منافسه الصيني "بايدو" Baidu أكثر من ستين بالمئة من تلك السوق التي وصلت قيمتها الى بليون دولار في 2009. أزر موقع "ياهوو" نظيره "غوغل"، لكن شريكه الصيني "علي بابا"، الذي يعتبر أقوى بوابة للتجارة الالكترونية عالمياً، وصف خطوة "ياهوو" بأنها متهوّرة. ولم تؤيد مايكروسوفت خطوة منافسها "غوغل". وسرعان ما راج بأن ثغرة أمنية في نُظُم "ويندوز" (تنتجه مايكروسوفت) ساهم في إنكشاف المواقع أمام هجمات إلكترونية يُعتقد انها مُدبّرة من الحكومة الصينية، شملت "غوغل" وشركات أخرى. ونصحت ألمانيا مواطنيها بعدم استخدام محرك البحث "اكسبلورر" الذي تصنعه مايكروسوفت. هل وراء أكمة ذلك النزاع ما ورائها، خصوصاً إذا لوحظ السرعة التي ساندت فيها الحكومة الأميركية "غوغل"؟ من المستطاع البدء في الإجابة بالرجوع الى المُدوّنة الإلكترونية الرسمية التي خصصها محرك البحث "غوغل" لشرح مقاربته الجديدة مع الصين. وأول ما يلفت في المدوّنة ان الأمر لم يقتصر على مواقع المعارضة الصينية، بل ان الحكومة الصينية جمعت معلومات تقنية متطورة عن الإنترنت والاقتصاد الرقمي والاعلام و...الكيمياء! لماذا الكيمياء؟ وهل لذلك علاقة بتقدّم بحوث النانوتكنولوجيا Nanotechnology (وهو قلب في علوم المستقبل) في الصين؟ هل يتعلق الأمر أيضاً بسعي الصين للحصول على معلومات علمية وتكنولوجية واستراتيجية واستخباراتية وعسكرية؟ الأرجح أنه أمر متشابك.