التوجه إلى «دلهي القديمة» مغامرة يمكن الاستغناء عنها، إنما عند زيارة المرء بلداً من هذا النوع يُفضّل الارتماء في المغامرة وليس الاستغناء عنها. ثمة شعور بواجب الانغماس حيث تقيم، للتعرف إن لم يكن على نمط تفكير فعلى نمط عيش وهو أضعف الإيمان. حين تفعل قد تشعر بدهشة تنسيك حذرك الأول بل تثير فيك نوعاً من بهجة طفولية بتحقيق إنجاز ما واكتشاف سحر معين. إن تكلمت عن «الإنجاز» بعد زيارة دلهي القديمة لهو أمر مفهوم، بيد أن الحديث عن السحر والمتعة مرفقين «بدلهي القديمة» يجعلان من يسمعك ينظر إليك بالطول والعرض و في كل الاتجاهات، وإن حددت أكثر هدفاً من أهداف زياراتك المتكررة لها ستتسع العيون أكثر. «سينما» في دلهي القديمة؟!! لمَ؟ وصالات دلهي الجديدة حافلة بأكثر بكثير مما يوجد في أي صالة فرنسية مثلاً من وسائل راحة. لمَ؟ وأنت لا تعرف الداخل من الخارج، وكأن ما في دلهي الجديدة من روائح أطعمة وغازات وضجيج أبواق ومحركات وزحام أفراد وعربات لا يرضي فضولك... لمَ؟ ستحمرّ عيناك من التلوث، وتغبرّ ملابسك ويدور رأسك وتصطدم عند كل خطوة بأنواع لا تحصر من وسائل النقل... حين اقترحتُ على صديقة هندية اصطحابي -فالذهاب بمفردي كان يجعل المغامرة مغامرتين- إلى دار عرض في دلهي القديمة لمشاهدة سينما «شعبية» بعيداً من صالات نيودلهي الراقية، أظهرتْ قبولاً متحفظاً إلى حد ما، فثمة صالات لا يمكن دعسها، ولا أحد -المقصود بهذا الناس الذين يتمتعون بأقل قدر من الحكمة- يتردد عليها، وهي تعرض «أي شيء ولا شيء» إضافة إلى أن الجمهور غامض الهوية والغرض وأن ثمة متجولين خفيين يتنزهون بين الأقدام وربما فوق المقاعد... استغنينا عن المغامرة الكبرى ورضينا بالصغرى، مكره أخاك... خيار تاريخيّ على البوابة الفاصلة بين دلهي القديمة والجديدة، وهي بوابة تمهّد بجدارة لكل ما سيصادفك في قلب المدينة القديمة، كان الخيار «تاريخيّاً» بامتياز. سينما «ديلايت» وجهة الطبقة الراقية وحديث المدينة عند افتتاحها منتصف الخمسينات، بناؤها الرخامي بأعمدته الضخمة، أثاثها المخملي، حماماتها الفخمة، وقبل كل هذا أفلامها وضيوفها من السياسيين، وأشهرهم جواهر لال نهرو وأنديرا غاندي، ومن النجوم اللامعة أساطير السينما الهندية شامي كابور وراج كابور وتقريباً معظم عائلة كابور كما نرجس وفروز خان وغورو دوت... أعلن عن الافتتاح حينها بمكبرات للصوت ثبتت على «ريكشو» (وسيلة نقل في الهند تشبه الطرطيرة)، وباتت الخيار الأول للناس وللموزعين والمنتجين. لم تكن تكتفي بأفلام بومباي، بل خصصت عروضاً للسينما الإقليمية ولاسيما لسينما البنغال الغربي (كلكوتا)، وفي الوقت الذي توقفت فيه صالات الهند عن عروضها بسبب ضرورات فرضتها الحرب بين الهند وباكستان أوائل السبعينات، كانت «ديلايت» الوحيدة من بين صالات الهند التي بقيت مفتوحة الذراعين أمام محبي السينما. استطاعت التأقلم مع الأجواء وأخذت تبثّ آخر أخبار المعارك في فترات الاستراحة التي تقطع عرض الفيلم. وحين حلتّ أزمة السينما في التسعينات وأغلقت معظم صالات دلهي القديمة وتحوّل ما تبقى منها إلى صالات لعرض «أفلام» غير قابلة للتصنيف، أمست «ديلايت» ملاذاً ترفيهياً لساكني الحيّ القديم و قررت في خطوة جريئة تجديد صالتها وأثاثها واستوردت أجهزة عرض من الولاياتالمتحدة الأميركية لتحافظ على سمعتها ومرتبتها ذات النجوم الخمس. عند المدخل كان ثمة تدافع خفيف، أمر لا نراه في صالات نيودلهي الحديثة حيث يصطف الجمهور بانتظام. إنما أينما وجدت الفوضى فهناك دائماً طرق وأساليب ملتوية لتفاديها. هنا كانت بالدخول مباشرة إلى داخل كوة قاطعي التذاكر. تفتيش بعدها لحقائب اليد وعبور جهاز أمن لا بد منه في كل الأماكن العامة في الهند بعد اعتداءات بومباي 2008. حرّ الخارج اختفى في الصالة المكيفة، جوّ من المرح والبهجة، نساء محجبات أكثر بكثير مما نراه في دور عرض أخرى، أطفال يمرحون ويتنقلون على هواهم مع البوشار والمشروبات. ثمة «تحت وفوق» كما كنا نسمي في صغرنا التحتاني والبلكون. نظرة من الأعلى إلى الأسفل، جماعات مستمرة بالتدفق، شباب وعائلات، لكن يطغى الشباب على الحاضرين في «التحتاني»، المقاعد التسعمائة التي تتسع لها الصالة كانت على وشك الامتلاء. « هماري أدهوري كاهاني» (قصتنا غير المكتملة) للمخرج مهيت سوري. قصة غرام رومانسية بالطبع، بين بائعة زهور (فيديا بالان) ورجل أعمال (عمران هاشمي) يدير فندقاً ضخماً وفخماً في دبي. ماضي المرأة يأتي ليخرّب عليها كل أمل بالعيش مع حبيبها لينتهي الفيلم نهاية حزينة ومأسوية. متعة طاغية يجب الاعتراف بأن من كان حاله كحالي، أي لا يحتمل متابعة أفلام بوليوود على ال «دي في دي»، فإن شعوره هذا سيغور تماماً وسيشعر باستمتاع طاغ وهو يشاهدها في قاعة هندية وبحضور جمهور هندي لا سيما إن كان على شاكلة هذا الذي كان في «ديلايت». ثلاث ساعات، صحيح أنها لا تمرّ سريعاً، ولكنها تمرّ... عدا حركة الرواح والمجيء المستمرة في الصالة وصياح الدليل من بعيد على القادمين الجدد للتقيد بأرقام أماكنهم وهذا الطفل الذي يندب وذاك الذي لا يكفّ عن ضرب المقعد والثالث الذي كان يقف عليه كسد منيع أمام مشهد قد يشعل الصالة، ويستدير نحوي مبتسماً لي دون أن تنفع معه إشاراتي بأن الشاشة أمامه وليست خلفه، ورنين الهواتف المتواصل والأحاديث التي يشاركنا فيها صاحب المكالمة... جاءت تعليقات الجمهور وصفيره وتصفيقه لتضيف متعة على متعتنا وحيوية على الصالة لا تهدأ. انطلق الصفير الأول مرفقاً بضحكات صاخبة وتشجيع وصيحات هييه!!! «مع أول لمسة «بريئة» قام بها البطل تجاه البطلة وكان الهدف منها إزالة ذرات من غبار علقت في جفنها، نصفُ اللمسة بالبريئة لأن العلاقة كانت فقط على وشك... بيد أن الاشتعال الحقيقي جاء حين تجاوبت البطلة مع محاولات حبيبها للتقرب منها وأرسلت له على هاتفه الذكي صورة لها، لقد كان هذا التصرف مبشراً بما هو أعظم، وحين قرر العاشق التخلي عن مهمة في الخارج كي يعود لرؤية حبيبته، وكانت مفاجأتها صاعقة ليس فقط بحضوره بل وببدئه الغناء لها أمام أعين كل زبائن الفندق الذي يديره، فقد ضجت القاعة بالصيحات والصفير، وكان الضجيج الأعلى للعناق الأول وقد تمثل في صياح قصير ولكن فعّال وما لبث أن ألحق باحتجاج لعدم اكتمال العناق بقبلة! وجاءت التعليقات الساخرة ومعها القهقهات والبطلان في السرير، ولحق السباب والشتائم زوجها حين صوب سكينه نحوها مهدداً إياها بالقتل وهذا بعد أن اجتمعت العوامل المعنوية والمادية لتعطي الحق لهذه المرأة بالحب وببدء حياة جديدة. وإن اختلفت ردود أفعال الجمهور الهندي في دور العرض حسب موقعها فهي حاضرة، تضفي حيوية على مشاهدة الأفلام، وبالطبع على «نوعية» محددة منها، وإن كان التعبير الصاخب في هذه القاعة قد خصص لمشاهد الحب «البريئة»، فهو في قاعات أخرى يختفي لصالح مشاهد لها علاقة بالسياسة والرشوة وكشف المخادعين ونصرة المظلوم، وللحديث بقية.